جلس في الفجر وحيداً.. لا يؤنس وحدته سوى سماعه لصوت زفيره وشهيقه..
خفيفاً يهمس إليه بالدفء؛ كحضن حنون..ظل هكذا لساعات؛ وكأنه في انتظار شخص، أو شيء مُهم..
يقطع صمته بزوغ الشمس، وخروج الخلق من جحورهم.. وبدء الحياة في تلك الحارة..
أصوات أجراس الدراجات تملأ الشارع، وفروع الزينة والأنوار مُتدلية تصل بين ناصيتيه..
أصوات انفجارات صغيرة، يحدثها صوت دوي فرقعة "بُمب" الصغار.. فاليوم الخميس؛ أول أيام العيد..
كان يجلس على هذا المقهى – كالعادة - لا يحتفل بالعيد؛ فقد خلا المقهى من رواده.
. الكل يقضي هذا الصباح مع من يحب..
بقايا قهوته تحفر تشقُقاتها على حواف فنجانه، ونصف كوب ماء أمامه بجوار علبة سجائره.
. إحساس بالضيق يتملكه، ويود على أثره أن يبكي.. يبكي كما لم يبكِ من قبل!!
يُشعل سيجارة، ويتفقد ساعته.. إنها الواحدة ظهراً، ولم يكتب شيئا بعد!!
كان عليه أن ينتهي ويسلم تلك المقالة للجريدة، في غضون ساعات قليلة..
يخرج كشكوله وقلمه، ويُريح رأسه للخلف؛ سانداً إياها على الحائط، ويغمض عينيه ويفكر
.. الكتابة لا تنشأ إلا من الفقدان.. فماذا فقدت؟
هي من فقدت.. نعم!!
لازال في وسعي أن أحب.. أو في وسعي أن أتخيل أنني أحب.. فأبيحوا القُبل في الطرقات..
يفتح عينيه، ويرمي بسيجارته قبل أن تحرق أصبعيه، ويدون كلماته تلك في كشكوله، ويرجع كما كان..
للأحاسيس روائح..
للموت رائحة.. نفاذة.. لا تُنسى..
للحزن رائحة احتراق آخر رغيف خُبز..
عود من الفل.. تلك رائحة الابتسام..
للغيرة.. للحب.. وحتى للانتظار رائحة..
يفتح عينيه، ويمسك بقلمه، ويتمتم: آه!! ليتنا نستطيع إعادة تشكيل نفوسنا؛
لنصبح أكثر مرونة، وقدرة على امتصاص الطعنات.. فلا ننزف حتى الموت.. و لا نبكي جراحنا..
ويدون:
لماذا لا يعزينا أحد كلما بكينا؟
كلما خُدعنا ممن نحب؟
كلما احترقت ذاكرتنا؟
كلما اندثرت ذكرانا؟
لماذا؟
أوليست سراديب العزاء تُقام من أجل كل من هو عزيز؟ كل ما هو غالى ونفيس؟
أوليست دموعنا عزيزة؟ وجراحنا غالية؟
ليس الموت وحده من يستحق أن تُقام له سراديب.. فالموت مجرد بداية
ساعة أو أكثر مرت على إغلاقه لعينيه.. نور خافت يتسلل من تحت الباب؛ لينير غرفته..
أصوات تخبط قطرات المطر على زُجاج نافذته يخف.. وهدوء واستقرار ملحوظ على
كل علاماته الحيوية.. من النبض والتنفس ودرجة الحرارة.. لعله بسبب يومه المُرهق المتكرر..
يحدث نفسه: لا.. لن أتحدث عن الموت مجدداً.. هناك الكثير من الأشياء؛
ربما لم أعشها بعد، لكنها حتما تستحق الكتابة أكثر من الموت..
يغوص في خياله؛ بحثاً في أعماقه عن ذكرى يستحضر بها وحيا.. يبحث عن جو نظيف؛
يستطيع متى يشاء أن يملأ رئتيه بهوائه.. يغلق عينيه بأمان.. لقد وهب قلبه.
. روحه وجسده لذكراه.. ولكن تأتي الذكريات بما لا تشتهي الأنفس..
تتسارع عيناه.. وتتحرك مقلتاه يميناً و يساراً بسرعة عالية من تحت جفونه..
صوت تخبط الأمطار في ازدياد مُزعج!!
معدلاته الحيوية في ازدياد ملحوظ.. عضلة قلبه تنقبض وتنبسط بشكل عشوائي.. حالة من الذعر والحزن تنتابه..
يحاسب على قهوته ويمضي في طريقه إلى الجريدة؛ لتسليم مقاله..
ويفكر..
كلامنا كالرصاص عندما يخرج منا؛ إما أن يقتل أو يصيب.. فيترك ندبة لا يمحوها أسفنا
يعبر الشارع، وهو ينظر متأملاً للشمس في الغروب.. ويبتسم قائلاً:
لابد وأنها أم هذه الأرض.. تأتي لتوقظ طفلتها وتُدفئها بحرارتها.. وعندما تتركها تأتي بقمر؛ حارسا لها..
يتصبب عرقاً.. وتتقطع أنفاسه لفترات طويلة.. تتزايد تقلباته.. يحس بجفاف بسبب تنفسه من خلال الفم، وإبقائه مفتوحاً لفترة طويلة..
أصوات الرياح بالخارج تزيد من إحساسه بالعطش!!
يفتح عينيه؛ ليجد نفسه طائراً في الهواء إثر صدمة من سيارة مُسرعة..
صوت تحطم عظامهم يدوي في أنحاء الشارع..
غاب النور الخافت من وراء باب غُرفته.. هدأت الأمطار.. وغادر الليل؛ حاملاً روحه.. وبقي جسده بارداً في سريره..
أضناه الطموح.. وأتعبه العمل..
حاولت الشمس أن تسكب عليه أشعتها؛ فتمتص البرودة، وتُدفئ هذا الجسد..
لكن دفء الروح لا يعوض سره أحد..
[i][b]