حكاية التاجر أيوب وابنه غانم وبنته فتنة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان تاجر من التجار له مال وله ولد كأنه البدر ليلة تمامه فصيح اللسان اسمه غانم بن أيوب المتيم المسلوب. وله أخت اسمها فتنة من فرط حسنها وجمالها فتوفي والدهما وخلف لهما مالاً جزيلاً وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثانية والخمسين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ذلك التاجر خلف لهما مالاً جزيلاً ومن جملة ذلك مائه حمل من الخز والديباج ونوافج المسك، ومكتوب على الأحمال هذا بقصد بغداد وكان مراده أن يسافر إلى بغداد فلما توفاه الله تعالى ومضت مدة أخذ ولده هذه الأحمال وسافر بها إلى بغداد وكان ذلك في زمن هارون الرشيد وودع أمه وأقاربه وأهل بلدته قبل سيره وخرج متوكلاً على الله تعالى وكتب الله له السلامة، حتى وصل إلى بغداد وكان مسافراً بصحبة جماعة من التجار فاستأجر له داراً حسنة وفرشها بالبسط والوسائد وأرخى عليها الستور وأنزل فيها تلك الأحمال والبغال والجمال، وجلس حتى استراح وسلم عليه تجار بغداد وأكابرها ثم أخذ بقجة فيها عشرة تفاصيل من القماش النفيس مكتوب عليها أثمانها ونزل بها إلى سوق التجار فلاقوه وسلموا عليه وأكرموه وتلقوه بالترحيب وأنزلوه على دكان شيخ السوق وباع التفاصيل، فربح في كل دينار دينارين، ففرح غانم وصار يبيع القماش والتفاصيل شيئاً فشيئاً ولم يزل كذلك سنة وفي أول السنة الثانية جاء إلى ذلك السوق فرأى بابه مقفولاً فسأل عن سبب ذلك فقيل له أنه توفي واحد من التجار وذهب التجار كلهم يمشون في جنازته فهل لك أن تكسب أجراً وتمشي معهم؟ فقال: نعم ثم سأل عن محل الجنازة فدلوه على المحل فتوضأ ثم مشى مع التجار إلى أن وصلوا المصلى وصلوا على الميت ثم مشى التجار جميعهم قدام الجنازة إلى المقبرة فتبعهم غانم إلى أن وصلوا بالجنازة خارج المدينة ومشوا بين المقابر حتى وصلوا إلى المدفن فوجدوا أهل الميت نصبوا على القبر خيمة وأحضر الشموع والقناديل، ثم دفنوا الميت وجلس القراء يقرؤون على ذلك القبر فجلس التجار ومعهم غانم بن أيوب وهو غالب عليه الحياء فقال في نفسه: أنا لم أقدر أن أفارقهم حتى أنصرف معهم ثم إنهم جلسوا يسمعون القرآن إلى وقت العشاء فقدموا لهم العشاء والحلوى، فأكلوا حتى اكتفوا وغسلوا أيديهم ثم جلسوا مكانهم فاشتغل خاطر غانم ببضاعته، وخاف من اللصوص وقال في نفسه: أنا رجل غريب ومنهم بالمال، فإن بت الليلة بعيداً عن منزلي سرق اللصوص ما فيه من المال والأحمال وخاف على متاعه فقام وخرج من بين الجماعة واستأذنهم على أنه يقضي حاجة فسار يمشي ويتتبع آثار الطريق حتى جاء إلى باب المدينة وكان ذلك الوقت نصف الليل فوجد باب المدينة مغلقاً ولم ير أحداً غادياً ولا رائحاً ولم يسمع صوتاً سوى نبيح الكلاب، وعوي الذئاب فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله كنت خائفاً على مالي وجئت من أجله فوجدت الباب مغلقاً فصرت الآن خائفاً على روحي ثم رجع ينظر له محلاً ينام فيه إلى الصباح فوجد تربة محوطة بأربع حيطان، وفيها نخلة ولها باب من الصوان مفتوح، فدخلها وأراد أن ينام فلم يجئه نوم وأخذته رجفة ووحشة وهو بين القبور، فقام واقفاً على قدميه وفتح باب المكان ونظر فرأى نوراً يلوح على بعد في ناحية المدينة فمشى قليلاً فرأى النور مقبلاً في الطريق التي توصل إلى التربة التي هو فيها فخاف غانم على نفسه، وأسرع برد الباب وتعلق حتى طلع فوق النخلة وتدارى في قلبها فصار النور يتقرب من التربة فتأمل النور فرأى ثلاثة عبيد اثنان حاملان صندوقاً في يده فأس وفانوس فلما قربوا من التربة قال أحد العبدين الحاملين الصندوقك ويلك يا صواب فقال العبد الآخر منها مالك يا كافور؟ فقال: إنا كنا هنا وقت العشاء وخلينا الباب مفتوحاً فقال: نعم هذا الكلام صحيح فقال: ها هو مغلق، فقال لهما الثالث وهو حامل الفأس والنور وكان اسمه بخيتاً: ما أعقل عقلكما أما تعرفان أن أصحاب الغيطان يخرجون من بغداد ويترددون هنا فيمسي عليهم المساء فيدخلون هنا ويغلقون عليهم الباب خوفاً من السودان الذين هم مثلنا أن يأخذوهم ويشووهم ويأكلوهم فقالوا له: صدقت وما فينا أقل عقلاً منك، فقال لهم: إنكم لم تصدقوني حتى ندخل التربة ونجد فيها أحداً، وأظن أنه كان فيها أحداً ورأى النور وهرب فوق النخلة. فلما سمع غانم كلام العبيد قال في نفسه: ما أمكر هذا العبد فقبح الله السودان لما فيهم من الخبث واللؤم، ثم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وما الذي يخلصني من هذه الورطة، ثم إن الاثنين الحاملين للصندوق قالا لمن معه الفأس: تعلق على الحائط وافتح الباب لنا يا صواب لأننا تعبنا من الصندوق على رقابنا فإذا فتحت لنا الباب لك علينا واحد من الذين نمسكهم ونقليه لك قلياً جيداً بحيث لا يضيع من دهنه شيء فقال صواب: أنا خائف من شيء تذكرته من قلة عقل وهو أننا نرمي الصندوق وراء الباب لأنه ذخيرتنا فقالا له: إن رميناه ينكسر فاقل: انا جربت أن يكون في داخل التربة الحرامية الذين يقتلون الناس ويسرقون أموالهم لأنهم إذا أمسى عليهم الوقت يدخلون في هذه الأماكن ويقسمون معهم فقال له الاثنان الحاملان للصندوق: يا قليل العقل هل يقدرون أن يدخلوا هذا المكان فحملا الصندوق وتعلقا على الحائط ونزلا وفتحا الباب والعبد الثالث الذي هو خبيث واقف لهما بالنور والمقطف الذي فيه بعض من الجبس. ثم إنهم جلسوا وقفلوا الباب فقال واحد منهم: يا أخوتي نحن تعبنا من المشي والشيل والحط وفتح الباب وقفله وهذا الوقت نصف الليل، ولم يبق فينا قوة لفتح الباب ودفن الصندوق ولكننا نجلس هنا ثلاث ساعات لنستريح ثم نقوم ونقضي حاجتنا ولكن كل واحد منا يحكي سبب تطويشه وجميع ما وقع له من المبتدأ إلى المنتهى لأجل قوات هذه الليلة.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثالثة والخمسون قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العبيد الثلاثة لما قالوا لبعضهم كل واحد يحكي جميع ما وقع له قال الأول وهو الذي كان حامل النور: أنا أحكي لكم حكايتي فقالوا له: تكلم قال لهم: اعلموا يا أخواني أني لما كنت صغيراً جاء بي الجلاب من بلدي وعمري خمس سنين فباعني لواحد جاويش وكان له بنت عمرها ثلاث سنوات فتربيت معها وكانوا يضحكون علي وأنا ألاعب البنت وأرقص معها إلى أن صار عمري اثنتي عشرة سنة وهي بنت عشر سنين ولا يمنعونني عنها إلى أن دخلت عليها يوماً من الأيام وهي جالسة في البيت لأنها كانت معطرة مبخرة ووجهها مثل القمر في ليلة أربعة عشر فلاعبتني ولاعبتها فنفر أحليلي حتى صار مثل المفتاح الكبير.
فدفعتني إلى الأرض فوقعت على ظهري وركبت على صدري وصارت تتمرغ علي فانكشف إحليلي فلما رأته وهو نافر أخذته بيدها وصارت تحك به على أشفار فرجها من فوق لباسها، فهاجت الحرارة عندي وحضنتها فشبكت يديها في عنقي وفرطت علي بجسدها فلم أشعر إلا وإحليلي فتق لباسها ودخل في فرجها وأزال بكارتها، فلما عاينت ذلك هربت عند أصحابي فدخلت عليها أمها فلما رأت حالها غابت عن الدنيا، ثم تداركت أمرها وأخفت حالها عن أبيها وكتمته وصبرت عليها مدة شهرين، كل هذا وهم ينادونني ويلاطفونني حتى أخذوني من المكان الذي كنت فيه ولم يذكروا شيئاً من هذا الأمر لأبيها لأنهم كانوا يحبونني كثيراً.
ثم إن أمها خطبت لها شاباً مزين كان يزين أباها وأمهرتها من عندها وجهزتها كل هذا وأبوها لا يعلم بحالها وصاروا يجتهدون في تحصيل جهازها ثم إنهم أمسكوني على غفلة وخصوني ولما زفوها للعريس جعلوني طواشياً لها أمشي قدامها أينما راحت سواء كان رواحها إلى الحمام أو إلى بيت أبيها وقد ستروا أمرها. وليلة الدخلة ذبحوا على قميصها حمامة ومكثت عندها مدة طويلة وأنا أتملى بحسنها وجمالها على قدر ما أمكنني من تقبيل وعناق إلى أن ماتت هي وزوجها وأمها وأبوها، ثم أخذت بيت المال وصرت هذا المكان وقد ارتفعت بكم وهذا سبب قطع إحليلي والسلام. فقال العبد الثاني: اعلموا يا إخواني اني كنت في ابتداء أمري ابن ثمان سنين ولكن كنت أكذب على الجلابة كل سنة كذبة حتى يقعوا في بعضهم، فقلق مني الجلاب وأنزلني في يد الدلال وأمره أن ينادي من يشتري هذا العبد على عيبه فقيل له: وما عيبه؟ قال: يكذب في كل سنة كذبة واحدة فتقدم رجل تاجر إلى الدلال وقال له: كم أعطوا في هذا العبد من الثمن على عيبه؟ قال: أعطوا ستمائة درهم قال: ولك عشرون فجمع بينه وبين الجلاب وقبض منه الدراهم وأوصلني الدلال إلى منزل ذلك التاجر وأخذ دلالته، فكساني التاجر ما يناسبني ومكثت عنده باقي سنتي إلى أن هلت السنة الجديدة بالخير وكانت سنة مباركة مخصبة بالنبات فصار التجار يعملون العزومات وكل يوم على واحد منهم إلى أن جاءت العزومة على سيدي في بستان خارج البلد فراح هو والتجار وأخذ لهم ما يحتاجون إليه من أكل وغيره فجلسوا يأكلون ويشربون ويتنادمون إلى وقت الظهر فاحتاج سيدي إلى مصلحة من البيت فقال: يا عبد اركب البغلة وروح إلى المنزل وهات من سيدتك الحاجة الفلانية وارجع سريعاً فامتثلت أمره ورحت إلى المنزل وأخبرتهم أن سيدي جلس تحت الحائط لقضاء حاجة فوقع الحائط عليه ومات. فلما سمع أولاده وزوجته ذلك الكلام صرخوا وشقوا ثيابهم ولطموا على وجوههم فأتت إليهم الجيران، وأما زوجة سيدي فإنها قلبت متاع البيت بعضه على بعض وخلعت رفوفه وكسرت طبقاته وشبابيكه وسخمت حيطانه بطين ونيلة وقالت: ويلك يا كافور تعال ساعدني واخرب هذه الدواليب وكسر هذه الأواني والصيني.
فجئت إليها وأخرجت معها رفوف البيت وأتلفت ما عليها ودواليبه وأتلفت ما فيها ودرت على السقوف وعلى كل محل حتى أخرجت الجميع وأنا أصيح واسيداه ثم خرجت سيدتي مكشوفة الوجه بغطاء رأسها لا غير وخرج معها البنات والأولاد وقالوا: يا كافور امش وأرنا مكان سيدك الذي هو ميت فيه تحت الحائط حتى نخرجه من تحت الردم ونحمله في تابوت ونجيء به إلى البيت فنخرجه خرجة مليحة، فمشيت قدامهم وأنا أصيح واسيداه وهم خلفي مكشوفوا الوجوه والرؤوس يصيحون: وامصيبتاه وانكبتاه فلم يبق أحد من الرجال ولا من النساء ولا من الصبيان ولا صبية ولا عجوزة إلا جاءت معنا وصاروا كلهم يلطمون وهم في شدة البكاء فمشيت بهم في المدينة فسأل الناس عن الخبر فأخبروهم بما سمعوا مني فقال الناس: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم إننا نمضي للوالي ونخبره، فلما وصلوا إلى الوالي أخبروه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
في الليلة الرابعة والخمسين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنهم لما وصلوا إلى الوالي وأخبروه قام الوالي وركب وأخذ معه الفعلة بالمساحي والقفف ومشوا تابعين أثري ومعهم كثير من الناس وأنا أبكي وأصيح وأحثو التراب على رأسي وألطم على وجهي فلما دخلت عليهم ورآني سيدي بهت واصفر لونه وقال: ما لك يا كافور وما هذا الحال وما الخبر؟ فقلت له: إنك لما أرسلتني إلى البيت لأجيء لك بالذي طلبته رحت إلى البيت ودخلته فرأيت الحائط التي في القاعة وقعت فانهدمت القاعة كلها على سيدتي وأولادها فقال لي: وهل سيدتك لم تسلم؟ فقال: لا ما سلم منهم أحد وأول من مات منهم سيدتي الكبيرة فقال: وهل سلمت بنتي الصغيرة؟ فقلت: لا فقال لي: وما حال البغلة التي أركبها هل هي سالمة؟ فقلت له: لا يا سيدي فإن حيطان البيت وحيطان الاصطبل انطبقت على جميع ما في البيت حتى على الغنم والإوز والدجاج وصاروا كلهم كوم لحم وصاروا تحت الردم ولم يبق منهم أحد فقال لي: ولا سيدك الكبير؟ فقلت له: لا فلم يسلم منهم أحد، وفي هذه الساعة لم يبق دار ولا سكان ولم يبق من ذلك كله أثر وأما الغنم والإوز والدجاج فإن الجميع أكلها القطط والكلاب. فلما سمع سيدي كلامي صار الضياء في وجهه ظلاماً ولم يقدر أن يتمالك نفسه ولا عقله ولم يقدر أن يقف على قدميه بل جاءه الكساح وانكسر ظهره ومزق أثوابه ونتف لحيته ولطم على وجهه ورمى عمامته من فوق رأسه وما زال يلطم وجهه حتى سال منه الدم وصار يصيح: آه.. وا أولاداه آه وا زوجتاه.. آه وا مصيبتاه من جرى له مثل ما جرى لي فصاح التجار رفقاؤه لصياحه وبكوا معه ورثوا لحاله وشقوا أثوابهم وخرج سيدي من ذلك البستان وهو يلطم من شدة ما جرى له وأكثر اللطم على وجهه وصار كأنه سكران، فبينما الجماعة خارجون من باب البستان وإذا هم نظروا غبرة عظيمة وصياحات بأصوات مزعجة فنظروا إلى تلك الجهة فرأوا الجماعة المقبلين وهم الوالي وجماعته والخلق والعالم الذين يتفرجون وأهل التاجر وراءهم يصرخون ويصيحون وهم في بكاء وحزن زائد فأول من لاقى سيدي زوجته وأولادها فلما رآهم بهت وضحك وقال لهم: ما حالكم أنتم؟ وما حصل في الدار وما جرى لكم؟ فلما رأوه قالوا: الحمد لله على سلامتك أنت ورموا أنفسهم عليه وتعلقت أولاده به وصاحوا: وأبتاه الحمد لله على سلامتك يا أبانا وقالت له زوجته: الحمد لله الذي أرانا وجهك بسلامة وقد اندهشت وطار عقلها لما رأته وقالت له: كيف كانت سلامتك أنت وأصحابك؟ فقال لها: وكيف كان حالكم في الدار؟ فقالوا: نحن طيبون بخير وعافية وما أصاب دارنا شيء من الشر غير أن عبد كافوراً جاء إلينا مكشوف الرأس مزق الأثواب وهو يصيح: وا سيداه واسيداه فقلنا له ما الخبر يا كافور؟ فقال: إن سيدي جلس تحت حائط في البستان ليقضي حاجة فوقعت عليه فمات فقال لهم سيده:والله إنه أتاني في هذه الساعة وهو يصيح: وا سيدتاه وقال أن سيدتي وأولادها ماتوا جميعاً، ثم نظر إلى جانبه فرآني وعمامتي ساقطة في رأسي وأنا أصيح وأبكي بكاء شديداً وأحثو التراب على رأسي فصرخ علي فأقبلت عليه فقال لي: ويلك يا عبد النحس يا ابن الزانية يا ملعون الجنس ما هذه الوقائع التي عملتها ولكن والله لأسلخن جلدك عن لحمك وأقطعن لحمك عن عظمك فقلت: والله ما تقدر أن تعمل معي شيئاً لأنك قد اشتريتني على عيبي وأنت عالم به وهو أني أكذب في كل سنة كذبة واحدة وهذه نصف كذبة فإذا كملت السنة كذبت نصفها الآخر فتبقى كذبة واحدة. فصاح علي: يا ألعن العبيد هل هذا كله نصف كذبة وإنما هو داهية كبيرة، اذهب عني فأنت حر فقلت: والله إن أعتقتني أنت ما أعتقك أنا حتى تكمل السنة وأكذب نصف الكذبة الباقي وبعد أن أتمها فانزل بي السوق وبعني بما اشتريتني به على عيبي ولا تعتقني فإنني ما لي صنعة أقتات منها وهذه المسألة التي ذكرتها لك شرعية ذكرها الفقهاء في باب العتق. فبينما نحن في الكلام وإذا بالخلايق والناس وأهل الحارة نساء ورجالاً قد جاؤوا يعملون العزاء وجاء الوالي وجماعته فراح سيدي والتجار إلى الوالي وأعلموه بالقضية وإن هذه نصف كذبة، فلما سمع الحاضرون ذلك منه استعظموا تلك الكذبة وتعجبوا غاية العجب فلعنوني وشتموني فبقيت واقفاً أضحك وأقول: كيف يقتلني سيدي وقد اشتراني على هذا العيب؟ فلما مضى سيدي إلى البيت وجده خراباً وأنا الذي أخربت معظمه وكسرت فيه شيئاً يساوي كثيراً من المال. فقالت له زوجته: إن كافور هو الذي كسر الأواني الصيني فازداد غيظه وقال: والله ما رأيت عمري ولد زنا مثل هذا العبد ولأنه يقول نصف كذبة فكيف لو كانت كذبة كاملة فحينئذ كان أخرب مدينة أو مدينتن ثم ذهب من شدة غيظه إلى الوالي فضربني علقة شديدة حتى غبت عن الدنيا وغشي علي فأتاني بالمزين في حال غشيتي فخصاني وكواني، فلما أفقت وجدت نفسي خصياً وقال لي سيدي: مثل ما أحرقت قلبي على أعز الشيء عندي أحرقت قلبك على أعز الشيء عندك، ثم أخذني فباعني بأغلى ثمن لأني صرت طواشياً وما زلت ألقى الفتن في الأماكن التي أباع فيها. وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الخامسة والخمسون قالت: بلغني أن العبد قال: وما زلت ألقى الفتن في الأماكن التي أباع فيها وانتقل من أمير إلى أمير ومن كبير إلى كبير بالبيع والشراء حتى دخلت قصر أمير المؤمنين وقد انكسرت نفسي وضعفت قوتي وأعدمت خصيتي فلما سمع العبدان كلامه ضحكا عليه وقالا له: إنك خبيث ابن خبيث قد كذبت كذباً شنيعاً. ثم قالوا للعبد الثالث: احك لنا حكايتك قال لهم: يا أولاد عمي كل ما حكي هذا بطال فأنا أحكي لكم سبب قطع خصيتي وقد كنت أستحق أكثر من ذلك لأني كنت نكحت سيدتي وابن سيدتي والحكاية معي طويلة وما هذا وقت حكايتها الآن الصباح يا أولاد عمي قريب وربما يطلع علينا الصباح. ومعنا هذا الصندوق فننفضح بين الناس وتروح أرواحنا فدونكم فتح الباب فإذا فتحناه ودخلنا محلنا قلت لكم على سبب قطع خصيتي ثم تعلق ونزل من الحائط وفتح الباب، فدخلوا وحطوا الشمع وحفروا حفرة على قد الصندوق بين أربعة قبور وصار كافور يحفر وصواب ينقل التراب بالقفف إلى أن حفروا نصف قامة ثم حطوا الصندوق في الحفرة وردوا عليه التراب وخرجوا من التربة وردوا الباب وغابوا عن عين غانم بن أيوب.
فلما خلا لغانم المكان وعلم أنه وحده اشتغل سره بما في الصندوق، وقال في نفسه: يا ترى أي شيء في الصندوق؟ ثم صبر حتى كشف الصندوق وخلصه ثم أخذ حجراً وضرب القفل فكسره وكشف الغطاء ونظر فرأى صبية نائمة مبنجة ونفسها طالع ونازل إلا أنها ذات حسن وجمال وعليها حلي ومساغ من الذهب وقلائد من الجوهر تساوي ملك السلطان ما يفي بثمنها مال فلما رآها غانم بن أيوب عرف أنهم تغامزوا عليها، فلما تحقق ذلك الأمر عالج فيها حتى أخرجها من الصندوق وأرقدها على قفاها فلما استنشقت الأرياح ودخل الهواء في مناخرها عطست ثم شرقت وسعلت فوقع من حلقها قرص بنج لو شمه الفيل لرد من الليل إلى الليل ففتحت عينيها وأدارت طرفها، وقالت بكلام فصيح: ويلك يا ريح ما فيك ري للعطشان، ولا أنس للريان أين زهر البستان فلم يجاوبها أحد فالتفتت وقالت صبيحة شجرة الدرنور، الهدى نجمة الصبح أنت في شهر نزهة حلوة ظريفة تكلموا فلم يجبها أحد، فجالت بطرفها وقالت: ويلي عند إنزالي في القبور يا من يعلم ما في الصدور ويجازي يوم البعث والنشور من جاء بي من بين الستور والخدور ووضعني بين أربعة قبور هذا كله وغانم واقف على قدميه. فقال لها: يا سيدتي لا خدور ولا قصور ولا قبور، ما هذا إلا عبدك غانم بن أيوب ساقه إليك الملك وعلام الغيوب حتى ينجيك من هذه الكروب ويحصل لك غاية المطلوب وسكت فلما تحققت الأمر قالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، والتفتت إلى غانم وقد وضعت يديها على صدرها وقالت له بكلام عذب: أيها الشاب المبارك من جاء بي إلى هذا المكان فها أنا قد أفقت؟ فقال: يا سيدتي ثلاثة عبيد خصيون أتوا وهم حاملون هذا الصندوق، ثم حكى لها ما جرى وكيف أمسى عليه المساء حتى كان سبب سلامتها وإلا كانت ماتت بغصتها ثم سألها عن حكايتها وخبرها فقالت له: أيها الشاب الحمد لله الذي رماني عند مثلك فقم الآن وحطني في الصندوق واخرج إلى الطريق وأوصلني إلى بيتك، فإذا صرت في دارك يكون خيراً وأحكي لك حكايتي وأخبرك تقصتي ويحصل لك الخير من جهتي ففرح وخرج إلى البرية وقد شعشع النهار وطلعت الشمس بالأنوار وخرجت الناس ومشوا فاكترى رجلاً ببغل وأتى به إلى التربة فحمل الصندوق بعدما حط فيه الصبية، ووقعت محبتها في قلبه وسار بها وهو فرحان لأنها جارية تساوي عشرة آلاف دينار وعليها حلي وحلل يساوي مالاً جزيلاً وما صدق أن يصل إلى داره وأنزل الصندوق وفتحه وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السادسة والخمسون قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن غانم بن أيوب وصل إلى داره بالصندوق وفتحه وأخرج الصبية منه ونظرت فرأت هذا المكان محلاً مليحاً مفروشاً بالبسط الملونة والأوان المفرحة وغير ذلك ورأت قماشاً محزوماً وأحمالاً وغير ذلك فعلمت أنه تاجر كبير صاحب أموال، ثم إنها كشفت وجهها ونظرت إليه فإذا هو شاب مليح، فلما رأته أحبته وقالت له: هات لنا شيئاً نأكله، فقال لها غانم: على الرأس والعين، ثم نزل السوق واشترى خروفاً مشوياً وصحن حلاوة وأخذ معه نقلاً وشمعاً وأخذ معه نبيذاً وما يحتاج إليه الأمر من ألة المشموم وأتى إلى البيت ودخل بالحوائج فلما رأته الجارية ضحكت وقبلته واعتنقته وصارت تلاطفه فازدادت عنده المحبة واحتوت على قلبه ثم أكلا وشربا إلى أن أقبل الليل وقد أحب بعضهما بعضاً لأنهما كانا في سن واحد.
فلما أقبل الليل قام المتيم المسلوب غانم بن أيوب وأوقد الشموع والقناديل فأضاء المكان وأحضر آلة المدام ثم نصب الحضرة وجلس هو وإياها. وكان يملأ ويسقيها وهي تملأ وتسقيه وهما يلعبان ويضحكان وينشدان الأشعار وزاد بهما الفرح وتعلقا بحب بعضهما فسبحان مؤلف القلوب، ولم يزالا كذلك إلى قريب الصبح فغلب عليهما النوم فنام كل منهما في موضعه إلى أن أصبح الصباح فقام غانم بن أيوب وخرج إلى السوق، واشترى ما يحتاج إليه من خضرة ولحم وخمر وغيره، وأتى به إلى الدار وجلس هو وإياها يأكلان، فأكلا حتى اكتفيا وبعد ذلك أحضر الشراب وشربا ولعبا مع بعضهما حتى احمرت وجنتاهما واسودت أعينهما واشتاقت نفس غانم بن أيوب إلى تقبيل الجارية والنوم معها فقال لها: يا سيدتي ائذني لي بقبلة في فيك لعلها تبرد نار قلبي؟ فقالت: يا غانم اصبر حتى أسكر وأغيب وأسمح لك سراً بحيث لم أشعر أنك قبلتني ثم إنها قامت على قدميها وخلعت بعض ثيابها وقعدت في قميص رفيع وكوفية فعند ذلك تحركت الشهوة عند غانم وقال: يا سيدتي أما تسمحين لي بما طلبته منك؟ فقالت: والله لا يصح لك ذلك لأنه مكتوب على دكة لباسي قول صعب فانكسر خاطر غانم بن أيوب فأنشدت:
سألت من أمر ضنى في قبلة تشفي السقم
فقـال لا لا أبــدا قلت له نعم نـعـم
فقالت خذها بالرضا من الحلال وابتسـم
فقلت غصباً قـال لا ألا على رأس علـم
فلا تسل عما جـرى إلا على رأس علـم
فلا تسل عما جـرى واستغفر اللـه ونـم
فظن ما شئت بـنـا فالحب يحلو بالتهـم
ولا أبالي بعد أن باح يوماً أو كتم ثم زادت محبته وانطلقت النيران في مهجته هذا وهي تتمنع منه وتقول: ما لك وصول إلي ولم يزالا في عشقهما ومنادمتهما وغانم بن أيوب غريق في بحر الهيام وأما هي فإنها قد ازداد قسوة وامتناعاً، إلى أن دخل الليل بالظلام وأرخى عليها ذيل المنام فقام غانم وأشعل القناديل وأوقد الشموع، وزاد بهجة المقام وأخذ رجليها وقبلهما فوجدهما مثل الزبد الطري، فمرغ وجهها عليها وقال: يا سيدتي ارحمي أسير هواك ومن قتلت عيناك كنت سليم القلب لولاك ثم بكى قليلاً فقالت: أنا والله لك عاشقة وبك متعلقة ولكن أنا أعرف أنك لا تصل إلي فقال لها: وما المانع؟ فقالت له: سأحكي لك في هذه الليلة قصتي حتى تقبل عذري ثم إنها ترامت عليه وطوقت على رقبته بيديها وصارت تقبله وتلاطفه ثم وعدته بالوصال ولم يزالا يلعبان ويضحكان حتى تمكن حب بعضهما من بعض ولم يزالا على ذلك الحال وهما في كل ليلة ينامان في فراش واحد وكلما طلب منها الوصال تتعزز عنه مدة شهر كامل وتمكن حب كل واحد منهما من قلب الآخر ولم يبق لهما صبر عن بعضهما إلى أن كانت ليلة من الليالي وهو راقد معها والاثنان سكرانان فمد يده على جسدها وملس ثم مر بيده على بطنها ونزر إلى سرتها فانتبهت وقعدت وتعهدت اللباس فوجدته مربوطاً فنامت ثانياً فملس عليها بيده ونزل بها إلى سراويلها وتكتها وجذبها فانتبهت وقعدت وقعد غانم بجانبها. فقالت له: ما لذي تريد؟ قال: أريد أن أنام معك وأتصافى أنا وأنت فعند ذلك، قالت له: أنا الآن أوضح لك أمري حتى تعرف قدري وينكشف لك عذري قال: نعم فعند ذلك شقت ذيل قميصها ومدت يدها إلى تكة لباسها وقالت: يا سيدي اقرأ الذي على هذا الطرف، فأخذ طرف التكة في يده ونظره فوجده مرقوماً عليه بالذهب أنا لك وأنت لي يا ابن عم النبي فلما قرأه نثر يده وقال لها: اكشفي لي عن خبرك؟ قالت: نعم أنا محظية أمير المؤمنين واسمي قوت القلوب وإن أمير المؤمنين لما رباني في قصره وكبرت نظر إلى صفائي وما أعطاني ربي من الحسن والجمال فأحبني محبة زائدة وأخذني وأسكنني في مقصورة وأمر لي بعشر جوار يخدمنني ثم إنه أعطاني ذلك المصاغ الذي تراه معي ثم إن الخليفة سافر يوماً من الأيام إلى بعض البلاد فجاءت السيدة زبيدة إلى بعض الجواري التي في خدمتي وقالت: إذا نامت قوت القلوب فحطي هذه القلقة البنج في أنفها أو في شرابها ولك علي من المال ما يكفيك.
فقالت لها الجارية: حباً وكرامة، ثم إن الجارية أخذت البنج منها وهي فرحانة لأجل المال ولكونها كانت في الأصل جاريتها فجاءت إلي ووضعت البنج في جوفي فوقعت على الأرض وصارت رأسي عند رجلي ورأيت نفسي في دنيا أخرى ولما تمت حيلتها حطتني في ذلك الصندوق وأحضرت العبيد سراً وأنعمت عليهم وعلى البوابين، وأرسلتني مع العبيد في الليلة التي كنت نائماً فيها فوق النخلة وفعلوا معي ما رأيت، وكانت نجاتي على يديك وأنت أتيت بي إلى هذا المكان وأحسنت إلى غاية الإحسان وهذه قصتي وما أعرف الذي جرى للخليفة في غيبتي فأعرف قدري ولا تشهر أمري فلما سمع غانم بن أيوب كلام قوت القلوب وتحقق أنها محظية الخليفة تأخر إلى ورائه خيفة من هيبة الخليفة وجلس وحده في ناحية من المكان يعاتب نفسه، ويتفكر في أمره وصار متحيراً في عشق التي ليس له إليها الوصول، فبكى من شدة الغرام ولوعة الوجد والهيام وصار يشكو الزمان وما له من العدوان فسبحان من شغل قلوب الكرام بالمحبة ولم يعط الأنذال منها وزن حبة، وأنشد هذين البيتين:
قلب المحب على الأحباب متعوب وعقله مع بديع الحسن منهـوب
وقائل قال لي ما المحب قلت له الحب عذب ولكن فيه تـعـذيب
فعند ذلك قامت إليه قوت القلوب واحتضنته وقبلته وتمكن حبه في قلبها وباحت له بسرها وما عندها من المحبة وطوقت على رقبته بيديها وقبلته وهو يتمنع عنها خوفاً من الخليفة، ثم تحدثا ساعة من الزمان وهما غريقان في بحر محبة بعضهما إلى أن طلع النهار فقام غانم ولبس أتوابه وخرج إلى السوق على عادته وأخذ ما يحتاج إليه الأمر وجاء إلى البيت فوجد قوت القلوب تبكي فلما رأته سكتت عن البكاء وتبسمت وقالت له: أوحشتني يا محبوب قلبي، والله إن هذه الساعة التي غبتها عني كسنة فإني لا أقدر على فراقك وها أنا قد بينت لك حالي من شدة ولعي بك فقم الآن ودع ما كان واقض أربك مني قال: أعوذ بالله، إن هذا شيء لا يكون كيف يجلس الكلب في موضع السبع والذي لمولاي يحرم علي أن أقربه ثم جذب نفسه منها وجلس في ناحية وزادت هي محبة بامتناعه عنها ثم جلست إلى جانبه ونادمته ولاعبته فسكرا وهامت بالافتضاح به فغنت منشدة هذه الأبيات:
قلب المتيم كـاد أن يتـفـتـت فإلى متى هذا الصدود إلى متى
يا معرضاً عني بغير جـنـاية فعوائد الغزلان أن تتـلـفـتـا
صد وهـجـر زائد وصـبـابة ما كل هذا الأمر يحمله الفتـى
فبكى غانم بن أيوب، وبكت هي لبكائه ولم يزالا يشربان إلى الليل، ثم قام غانم وفرش فرشين كل فرش في مكان وحده فقالت له قوت القلوب: لمن هذا الفرش الثاني؟ فقال لها: هذا لي والآخر لك ومن الليلة لا ننام إلا على هذا النمط وكل شيء للسيد حرام على العبد فقالت: يا سيدي دعنا من هذا وكل شيء يجري بقضاء وقدر فأبى فانطلقت النار في قلبها وزاد غرامها فيه وقالت: والله ما ننام إلا سوياً فقال: معاذ الله وغلب عليها ونام وحده إلى الصباح فزاد بها العشق والغرام، واشتد بها الوجد والهيام وأقاما على ذلك ثلاثة أشهر طوال وهي كلما تقرب منه يمتنع عنها ويقول: كل ما هو مخصوص بالسيد حرام على العبد فلما طال بها المطال مع غانم بن أيوب المسلوب وزادت بها الشجون والكروب أنشدت هذه الأبيات:
بديع الحسن كما هذا التجنـي ومن أغراك بالإعراض عني
حويت من الرشاقة كل معنى وحوت من الملاحة كل فـن
وأجريت الغرام لكل قـلـب وكللت السهاد بكل جـفـن
وأعرف قلبك الأغصان تجني فيا غصن الأراك أراك تجني
وعهدي بالظبا صيد فمـالـي أراك تصيد أرباب المـجـن
وأعجب ما أحدث عنك أنـي فتنت وأنت لم تعلـم بـأنـي
فلا تسمح بوصلك لي فإنـي أغار عليك منك فكيف مني
ولست بقائل ما دمـت حـياً بديع الحسن كما هذا التجني
وأقاموا على هذا الحال مدة والخوف يمنعهم عنها فهذا ما كان من أمر المتيم المسلوب غانم بن أيوب، وأما ما كان من أمر زبيدة فإنها في غيبة الخليفة فعلت بقوت القلوب ذلك الأمر، ثم صارت متحيرة تقول في نفسها ما أقول للخليفة إذا جاء وسأل عنها وما يكون جوابي له، فدعت بعجوز كانت عندها وأطلعتها على سرها، وقالت لها: كيف أفعل وقوت القلوب قد فرط فيها الفرط فقالت لها العجوز لما فهمت الحال: اعلمي يا سيدتي أنه قرب مجيء الخليفة ولكن أرسلي إلى النجار وأمريه أن يعمل صورة ميت من خشب ويحفروا له قبراً وتوقد حوله الشموع والقناديل وأمري كل من في القصر أن يلبسوا الأسود وأمري جواريك والخدام إذا علموا أن الخليفة أتى من سفره أن يشيعوا الحزن في الدهليز فإذا دخل وسأل عن الخبر يقول: إن قوت القلوب ماتت ويعظم الله أجرك فيها ومن معزتها عند سيدتنا دفنتها في قصرها فإذا سمع ذلك يبكي ويعز عليه ثم يسهر القراء على قبرها لقراءة الختمان فإن قال في نفسه إن بنت عمي زبيدة من غيرتها سعت في هلاك قوت القلوب أو غلب عليه الهيام فأمر بإخراجها من القبر فلا تفزعي من ذلك ولو حفروا على تلك الصورة التي على هيئة ابن آدم، وأخرجوا وهي مكفنة بالأكفان الفاخرة فإن أراد الخليفة إزالة الأكفان عنها لينظرها فامنعيه أنت من ذلك والأخرى تمنعه وتقول: رؤية عورتها حرام فيصدق حينئذ أنها ماتت ويردها إلى مكانها ويشكرك على فعلك وتخلصين إن شاء الله تعالى من هذه الورطة، فلما سمعت السيدة زبيدة كلامها ورأت أنه صواب خلت عليها وأمرتها أن تفعل ذلك بعدما أعطتها جملة من المال فشرعت العجوز في ذلك الأمر حالاً، وأمرت النجار أن يعمل لها صورة كما ذكرنا وبعد تمام الصورة جاءت بها إلى السيدة زبيدة فكفنتها وأوقدت الشموع والقناديل وفرشت البسط حول القبر، ولبست السواد وأمرت الجواري أن يلبسن السواد واشتهر الأمر في القصر أن قوت القلوب ماتت ثم بعد مدة أقبل الخليفة من غيبته وطلع إلى قصره ولكن ما شغل إلا قوت القلوب فرأى الغلمان والخدام والجواري كلهم لابسين السواد فارتجف فؤاده.
فلما دخل القصر على السيدة زبيدة رآها لابسة السواد فسأل عن ذلك فأخبروه بموت قوت القلوب، فوقع مغشياً عليه فلما أفاق سأل عن قبرها،فقالت له السيدة زبيدة: اعلم يا أمير المؤمنين أنني من معزتها عندي دفنتها في قصري فدخل الخليفة بثياب السفر إلى القصر ليزور قوت القلوب فوجد البسط مفروشة والشموع والقناديل موقودة، فلما رأى ذلك شكرها على فعلها، ثم إنه صار حائراً في أمره لم يزل ما بين مصدق ومكذب فلما غلب عليه الوسواس أمر بحفر القبر وإخراجها منه فلما رأى الكفن وأراد أن يزيله عنها ليراها خاف من الله تعالى فقالت العجوز: ردوها إلى مكانها، ثم إن الخليفة أمر في الحال بإحضار الفقهاء والمقرئين، وقرؤوا الختمات على قبرها وجلس بجانب القبر يبكي إلى أن غشي عليه ولم يزل قاعداً على قبرها شهراً كاملاً فأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة السابعة والخمسون قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة دخل الحريم بعد انفضاض الأمراء والوزراء من بين يديه إلى بيوتهم ونام ساعة فجلست عند رأسه جارية وعند رجليه جارية وبعد أن غلب عليه النوم تنبه وفتح عينيه فسمع الجارية التي عند رأسه تقول للتي عند رجليه: ويلك يا خيزران، قالت: لأي شيء يا قضيب؟ قالت لها: إن سيدنا ليس عنده علم بما جرى حتى أنه يسهر على قبر لم يكن فيه إلا خشبة منجرة صنعة النجار، فقالت لها الأخرى: وقوت القلوب أي شيء أصابها؟ فقالت: اعلمي أن السيدة زبيدة أرسلت مع جارية بنجاً وبنجتها فلما تحكم البنج منها وضعتها في صندوق وأرسلتها مع صواب وكافور وأمرتهما أن يرمياها في التربة فقالت خيزران: ويلك يا قضيب هل السيدة قوت القلوب لم تمت؟ فقالت: سلامة شبابها من الموت ولكن أنا سمعت السيدة زبيدة تقول إن قوت القلوب عند شاب تاجر اسمه غانم الدمشقي وأن لها عنده إلى هذا اليوم أربعة أشهر وسيدنا هذا يبكي ويسهر الليالي على قبر لم يكن فيه الميت وصارتا تتحدثان بهذا الحديث والخليفة يسمع كلامهما.
فلما سمع فرغ الجاريتان من الحديث وعرف القضية وأن هذا القبر زور وأن قوت القلوب عند غانم بن أيوب مدة أربعة أشهر غضب غضباً شديداً وقام وأحضر أمراء دولته فعند ذلك أقبل الوزير جعفر البرمكي وقبل الأرض بين يديه، فقال له الخليفة بغيظ: انزل يا جعفر بجماعة واسأل عن بيت غانم بن أيوب واهجموا على داره وائتوني بجاريتي قوت القلوب ولا بد لي أن أعدمه فأجابه جعفر بالسمع والطاعة فعند ذلك نزل جعفر وأتباعه والوالي صحبته ولم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى دار غانم كان غانم خرج في ذلك الوقت وجاء بقدر لحم واراد أن يمد يده ليأكل منها هو وقوت القلوب فلاحت منه التفاتة فوجد البلاط أحاط بالدار والوزير والوالي والظلمة والمماليك بسيوف مجردة وداروا به كما يدور بالعين السواد فعند ذلك عرفت أن خبرها وصل إلى الخليفة سيدها فأيقنت بالهلاك واصفر لونها وتغيرت محاسنها ثم أنها نظرت إلى غانم وقالت له: يا حبيبي فر بنفسك فقال لها: كيف أعمل وإلى أين أذهب؟ ومالي ورزقي في هذا الدار؟ فقالت له: لا تمكث لئلا تهلك ويذهب مالك، فقال لها: يا حبيبتي ونور عيني: كيف أصنع في الخروج وقد أحاطوا بالدار؟ فقالت له: لا تخف ثم إنها نزعت ما عليه من الثياب وألبسته خلقاناً بالية،وأخذت القدر التي كان فيها اللحم ووضعتها فوق رأسه وحطت فيها بعض خبز وزبدية طعام وقالت له: اخرج بهذه الحيلة ولا عليك مني فأنا أعرف أي شيء في يدي من الخليفة.
فلما سمع غانم كلام قوت القلوب وما أشارت عليه به، خرج من بينهم وهو حامل القدر وستر عليه الستار ونجا من المكايد والأضرار ببركة نيته، فلما وصل الوزير جعفر إلى ناحية الدار ترجل عن حصانه ودخل البيت ونظر إلى قوت القلوب وقد تزينت وتبهرجت وملأت صندوقاً من ذهب ومصاغ وجواهر وتحف مما حمله وغلا ثمنه، فلما دخل عليها جعفر قامت على قدميها وقبلت الأرض بين يديه وقالت له: يا سيدي جرى أنكم بما حكم اله، فلما رأى ذلك جعفر قال لها: والله يا سيدتي إنه ما أوصاني إلا بقبض غانم بن أيوب، فقالت: اعلم أنه حزم تجارات وذهب إلى دمشق ولا علم لي بغير ذلك واريد أن تحفظ لي الصندوق وتحمله إلى قصر أمير المؤمنين فقال:جعفر السمع والطاعة، ثم أخذ الصندوق وأمر بحمله وقوت القلوب معهم إلى دار الخلافة وهي مكرمة معززة وكان هذا بعد أن نهبوا دار غانم، ثم توجهوا إلى الخليفة فحكى له جعفر جميع ما جرى فأمر الخليفة لقوت القلوب بمكان مظلم وأسكنها فيه وألزم بها عجوزاً لقضاء حاجتها لنه ظن أن غانماً فحش بها ثم كتب مكتوباً للأمير محمد بن سليمان الزيني وكان نائباً في دمشق ومضمونه: ساعة وصول المكتوب إلى يديك تقبض على غانم بن أيوب وترسله إلي فلما وصل المرسوم إليه قبله ووضعه على رأسه ونادى في الأسواق من أراد أن ينهب فعليه بدار غانم بن أيوب فجاؤوا إلى الدار فوجدوا أم غانم،وأخته قد صنعتا لهما قبراً وقعدتا عنده تبكيان فقبضوا عليهما ونهبوا الدار ولم يعلما ما الخبر، فلما أحضرهما عند السلطان سألهما عن غانم بن أيوب، فقالتا له: من مدة سنة ما وقفنا له على خبر فردوهما إلى مكانهما، هذا ما كان من أمرهما. وأما ما كان من أمر غانم بن أيوب المتيم المسلوب، قإنه لما سلبت نعمته تحير في أمره وصار يبكي على نفسه حتى انفطر قلبه وسار ولم يزل سائراً إلى آخر النهار وقد ازداد به الجوع وأضر به المشي حتى وصل إلى بلد فدخل المسجد وجلس على برش وأسند ظهره إلى حائط المسجد وارتمى وهو في غاية الجوع والتعب ولم يزل مقيماً هناك إلى الصباح، وقد خفق قلبه من الجوع وركب جلده القمل وصارت رائحته منتنة وتغيرت أحواله، فأتى أهل تلك البلدة يصلون الصبح فوجدوه مطروحاً ضعيفاً من الجوع وعليه آثار النعمة لائحة فلما أقبلوا عليه وجدوه بردان جائعاً، فألبسوه ثوباً عتيقاً قد بليت أكمامه وقالوا له: من اين أنت يا غريب، وما سبب ضعفك؟ ففتح عينيه ونظر إليهم وبكى ولم يرد عليهم جواباً، ثم إن بعضهم عرف شدة جوعه فذهب وجاء له بكرجة عسل ورغيفين فأكل وقعدوا عنده حتى طلعت الشمس، ثم انصرفوا لأشغالهم ولم يزل على هذه الحالة شهراً وهو عندهم وقد تزايد عليه الضعف والمرض فتعطفوا عليه وتشاوروا مع بعضهم في أمره، ثم اتفقوا على أن يوصلوه إلى المارستان الذي ببغداد.
فبينما هم كذلك وإذا بامرأتين سائلتين قد دخلتا عليه وهما أمه وأخته، فلما رآهما أعطاهما الخبز الذي عند رأسه ونامتا عنده تلك الليلة ولم يعرفهما فلما كان ثاني يوم أتاه أهل القرية وأحضروا جملاً وقالوا لصاحبه: احمل هذا الضعيف فوق الجمل فإذا وصلت إلى بغداد فأنزله على باب المارستان لعله يتعافى فيحصل لك الأجر، فقال لهم: السمع والطاعة ثم إنهم أخرجوا غانم بن أيوب من المسجد وحملوه بالبرش الذي هو نائم عليه فوق الجمل وجاءت أمه وأخته يتفرجان عليه من جملة الناس ولم يعلما به ثم نظرتا إليه وتأملتاه وقالتا: إنه يشبه غانماً ابننا فيا ترى هل هو هذا الضعيف أو لا؟ وأما غانم فإنه لم يفق إلا وهو محمول فوق الجمل، فصار يبكي وينوح وأهل القرية ينظرون وأمه وأخته تبكيان عليه ولم يعرفانه ثم سافرت أمه وأخته إلى أن وصلتا إلى بغداد وأما الجمال فإنه لم يزل سائراً به حتى أنزله على باب المارستان وأخذ جمله ورجع فمكث غانم راقداً هناك إلى الصباح.
فلما درجت الناس في الطريق نظروا إليه وقد صار رق الحلال ولم يزل الناس يتفرجون عليه حتى جاء شيخ السوق ومنع الناس عنه، وقال: أنا أكتسب الجنة بهذا المسكين لأنهم متى أدخلوه المارستان قتلوه في يوم واحد ثم أمر صبيانه بحمله إلى بيته وفرش له فرشاً جديداً ووضع له مخدة جديدة وقال لزوجته: اخدميه ينصح فقالت: على الرأس ثم تشمرت وسخنت له ماء وغسلت يديه ورجليه وبدنه والبسته ثوباً من لبس جواريها وسقته قدح شراب ورشت عليه ماء ورد فأفاق وتذكر محبوبته قوت القلوب فزادت به الكروب. هذا ما كان من أمره وأما ما كان من أمر قوت القلوب فإنه لما غضب عليها الخليفة وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة الثامنة والخمسين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قوت القلوب لما غضب عليها الخليفة وأسكنها في مكان مظلم استمرت فيه على هذا الحال ثمانين يوماً، فاتفق أن الخليفة مر يوماً من الأيام على ذلك المكان فسمع قوت القلوب تنشد الأشعار فلما فرغت من إنشادها قالت: يا حبيبي يا غانم ما أحسنك وما أعف نفسك قد أحسنت لمن أساءك وحفظت حرمة من انتهك حرمتك وسترت حريمه، وهو سباك وسبى أهلك ولا بد أن تقف أنت وأمير المؤمنين بين يدي حاكم عادل وتنتصف عليه في يوم يكون القاضي هو الله،والشهود هم الملائكة، فلما سمع الخليفة كلامها وفهم شكواها علم أنها مظلومة فدخل قصره وأرسل الخادم لها فلما حضرت بين يديه أطرقت وهي باكية العين حزينة القلب، فقال: يا قوت القلوب أراك تنظلمين مني وتنسبينني إلى الظلم وتزعمين أني أسأت إلى من أحسن إلي فمن هو الذي حفظ حرمتي وانتهكت حرمته وستر حريمي وسبيت حريمه فقالت له: غانم بن أيوب فإنه لم يقربني بفاحشة وحق نعمتك يا أمير المؤمنين. فقال الخليفة: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم يا قوت القلوب تمني علي فأنا أبلغك مرادك: قالت: تمنين عليك محبوبي غانم بن أيوب فلما سمع كلامها قال: أحضره إن شاء الله مكرماً فقالت: يا أمير المؤمنين إن أحضرته أتهبني له؟ فقال: إن أحضرته وهبتك هبة كريم لا يرجع في عظائه فقال: يا أمير المؤمنين ائذن لي أن أدور عليه لعل الله يجمعني به؟ فقال لها: افعلي ما بدا لك، ففرحت وخرجت ومعها ألف دينار فزارت المشايخ وتصدقت عنه وطلعت ثاني يوم إلى التجار وأعطت عريف السوق دراهم وقالت له: تصدق بها على الغرباء، ثم طلعت ثاني جمعة ومعها ألف دينار ودخلت سوق الصاغة وسوق الجواهرجية وطلبت عريف السوق فحضر فدفعت له ألف دينار وقالت له: تصدق بها على الغرباء فظهر إليها العريف وهو شيخ السوق وقال لها: هل لك أن تذهبي إلى داري وتنظري إلى هذا الشاب الغريب ما أظرفه وما أكمله؟ وكان هو غانم بن أيوب المتيم المسلوب ولكن العريف ليس له به معرفة وكان يظن أنه رجل مسكين مديون سلبت نعمته أو عاشق فارق أحبته، فلما سمعت كلامه خفق قلبها وتعلقت به أحشاؤها.
فقالت له: أرسل معي من يوصلني إلى دارك فأرسل معها صبياً صغيراً، فأوصلها إلى الدار التي فيها الغريب فشكرته على ذلك فلما دخلت تلك الدار وسلمت على زوجة العريف قامت زوجة العريف وقبلت الأرض بين يديها لأنها عرفتها فقالت لها قوت القلوب: أين الضعيف الذي عندكم؟ فبكت وقالت: ها هو يا سيدتي إلا أنه ابن ناس وعليه أثر النعمة فالتفتت إلى الفرش الذي هو راقد عليه وتأملته فرأته كأنه هو بذاته ولكنه قد تغير حاله وزاد نحوله ورق إلى أن صار كالخلال وأنبهم عليها أمره فلم تتحقق أنه هو ولكن أخذتها الشفقة عليه فصارت تبكي وتقول: إن الغرباء مساكين وإن كانوا أمراء في بلادهم ورتبت له الشراب والأدوية، ثم جلست عند رأسه ساعة وركبت وطلعت إلى قصرها وصارت تطلع في كل سوق لأجل التفتيش على غانم ثم أن العريف أتى بأمه وأخته فتنة ودخل بهما على قوت القلوب وقال: يا سيدة المحسنات قد دخل مدينتنا في هذا اليوم امرأة وبنت، وهما من وجوه الناس وعليهما أثر النعمة لائح لكنهما لابستان ثياباً من الشعر وكل واحدة معلقة في رقبتها مخلاة وعيونهما باكية وقلوبهما حزينة، وها أنا أتيت بهما إليك لتأويهما وتصونيهما من ذل السؤال لأنهما لستا أهلاً لسؤال اللئام وإن شاء الله ندخل بسببهما الجنة.
فقالت: والله يا سيدي لقد شوقتني إليهما واين هم؟ فأمرهما بالدخول فعند ذلك دخلت فتنة وأمها على قوت القلوب فلما نظرتهما قوت القلوب وهما ذاتا جمال بكت عليهما، وقالت: والله إنهما أولاد نعمة ويلوح عليهما أثر الغنى، فقال العريف: يا سيدتي إننا نحب الفقراء والمساكين لأجل الثواب وهؤلاء ربما جار عليهم الظلمة وسلبوا نعمتهم وأخربوا ديارهم ثم إن المرأتين بكيتا بكاء شديداً وتفكرتا غانم بن أيوب المتيم المسلوب فزاد نحيبهما فلما بكيتا بكت قوت القلوب لبكائهما ثم إن أمه قالت: نسأل الله أن يجمعنا بمن نريده وهو ولدي غانم بن أيوب، فلما سمعت قوت القلوب هذا الكلام علمت أن هذه المرأة أم معشوقها وأن الأخرى أخته فبكت هي حتى غشي عليها، فلما أفاقت أقبلت عليهما وقالت لهما: لا بأس عليكما فهذا اليوم أو سعادتكما، وآخر شقاوتكما فلا تحزنا وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة التاسعة والخمسين قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قوت القلوب قالت لهما: لا تحزنا، ثم أمرت العريف أن يأخذهما إلى بيته ويخلي زوجته تدخلهما الحمام وتلبسهما ثياباً حسنة وتتوصى بهما وتكرمهما غاية الإكرام وأعطته جملة من المال، وفي ثاني يوم ركبت قوت القلوب وذهبت إلى بيت العريف ودخلت عند زوجته فقامت إليها وقبلت يديها وشكرت إحسانها، ورأت أم غانم وأخته وقد أدخلتهما زوجة العريف الحمام ونزعت ما عليهما من الثياب فظهرت عليهما آثار النعمة فجلست تحادثهما ساعة ثم سألت زوجة العريف عن المريض الذي عندها فقالت: هو بحاله فقالت: قوموا بنا نطل عليه ونعود فقامت هي وزوجة العريف وأم غانم وأخته ودخلن عليه وجلسن عنده. فلما سمعهن غانم بن أيوب المتيم المسلوب يذكرن قوت القلوب وكان قد انتحل جسمه ورق عظمه ردت له روحه ورفع رأسه من فوق المخدة ونادى: يا قوت القلوب فنظرت إليهم وتحققته فعرفته وصاحت بدورها: نعم يا حبيبي فقال لها: اقربي مني فقالت له: لعلك غانم بن أيوب المتيم المسلوب فقال لها: نعم أنا هو فعند ذلك وقعت مغشياً عليها.
فلما سمعت أمه وأخته كلامهما صاحتا بقولهما: وافرحتاه ووقعتا مغشياً عليهما وبعد ذلك استفاقتا فقالت له قوت القلوب: الحمد لله الذي جمع شملنا بك وبأمك وأختك، وتقدمت إليه وحكت له جميع ما جرى لها مع الخليفة وقالت: إني قلت له قد أظهرت لك الحق يا أمير المؤمنين فصدق كلامي ورضي عنك وهو اليوم يتمنى أن يراك، ثم قالت لغانم: إن الخليفة وهبني لك ففرح بذلك غاية الفرح فقالت لهم قوت القلوب: لا تبرحوا حتى أحضر، ثم إنها قامت من وقتها وساعتها وانطلقت إلى قصرها وحملت الصندوق الذي أخذته من داره وأخرجت منه دنانير وأعطت العريف إياها وقالت له: خذ هذه الدنانير واشتر لكل شخص منهم أربع بدلات كوامل من أحسن القماش وعشرين منديلاً وغير ذلك مما يحتاجون إليه ثم إنها دخلت بهما وبغانم الحمام وأمرت بغسلهم وعملت لهم المساليق وماء الخولجان وماء التفاح بعد أن خرجوا من الحمام ولبسوا الثياب وأقامت عندهم ثلاثة أيام وهي تطعمهم لحم الدجاج والمساليق وتسقيهم السكر المكرر وبعد ثلاثة أيام ردت لهم أرواحهم وأدخلتهم الحمام ثانياً وخرجوا وغيرت عليهم الثياب وخلتهم في بيت العريف وذهبت إلى الخليفة وقبلت الأرض بين يديه و