إن موقف الإسلام من عمل المرأة توضحه تمامًا قصة سيدنا موسى مع ابنتى شعيب - عليهم جميعًا السلام:
فقد خرج موسى - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - من مصر هاربًا من بطش فرعون. اجتاز - عليه السلام - صحراء سيناء وحيدًا جائعًا خائفًا يتلفَّت حوله بين الحين والآخر ليرى إن كان هناك مَن يتبعه أو يطارده. ووصل إلى بئر ماء فى منطقة "مدين" خارج حدود مصر الشرقية.رأى حول الماء عددًا كبيرًا من الرعاة يتزاحمون لسقى مواشيهم وأغنامهم. بعيدًا عن زحام الرعاة من الرجال كانت هناك امرأتان تُبعدان أغنامهما عن البئر حتى يفرغ القوم من السقي. ولأن النبي هو كالأب للأُمَّة فإن موسى - عليه السلام - توجَّه إلى المرأتين ليطمئن على حالهما. قالتا له أن أباهما شيخ كبير فى السن، وصحته لا تحتمل أن يأتى هو لسقى الأغنام، ولهذا اضطرت الفتاتان إلى القيام بتلك المهمة - سقى ورعى الأغنام - لعدم وجود أخ أو زوج يحمل عنهما هذا العبء. وكان عليهما الانتظار إلى أن يفرغ الآخرون وينصرفون، حتى يتجنبا الاختلاط بالرجال الغرباء. هنا تحرك خلق المروءة والرحمة فى نفس كليم الله ورسوله إلى أهل تلك الفترة، فتطوَّع فورًا بسقي الأغنام حتى يُعفى الفتاتين من هذه المشقة وذلك الاختلاط بغرباء. انتهى - عليه السلام - من العمل فانصرفت الفتاتان شاكرتين وجلس هو فى ظل شجرة قريبة يدعو ربه ويناجيه.
بعد قليل رأى - عليه السلام - إحدى الفتاتين قادمة تكاد تتعثر وتقع على الأرض من شدة الحياء. كانت تغطى وجهها بالنقاب ولا ترفع بصرها عن الأرض، وهى تخبره أن أباها قد علم بما فعله لمساعدة ابنتيه، ويرغب في استضافته وشكره على تصرفه النبيل. مشى موسى - عليه السلام - أمامها إلى حيث الأب الذى رحَّب به وأكرم ضيافته وعلم قصته مع فرعون وقومه. وهنا اقترحت الفتاة التى دعته لمقابلة الأب أن يستأجر أبوها موسى - عليه السلام - للعمل برعي وسقى الأغنام بدلاً منهما، وأخبرت أباها بقوته وأمانته - وهما صفتان أساسيتان فى أى أجير كفء - وقد توصلت الفتاة الذكية إلى معرفة ذلك بالفطنة وقوة الملاحظة. فقد رأت موسى يرفع وحده الصخرة التى تغطى فوهة البئر، وهى صخرة يعجز عن رفعها عدد من الرجال. وأما أمانته فدليلها أنه طلب منها أن تمشى خلفه وتلفت انتباهه إلى الطريق، حتى لا يضطر إلى المشى خلفها فتعبث الريح بثيابها فيرى تفاصيل جسمها، وهى أجنبية عنه ليست من محارمه. وهدى الله أبا الفتاتين إلى فكرة عبقرية عرضها على موسى فوافق. وكان العمل 8 أو 10 سنوات هو المهر مقابل زواج موسى من إحدى البنتين طبقًا للاقتراح الذي قبله كليم الله. وتم الزواج وعمل موسى أجيرًا عند شعيب 10 سنوات مقابل طعام بطنه وعفة فرجه.
هذه هي قصة موسى مع ابنتى شعيب، وقد حكاها القرآن الكريم فى سورة القصص، كما وردت أيضًا فى التوراة:
قال الله - تعالى -: ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [القصص: 23- 28].ويعجز القلم عن الإحاطة بكل ما فى هذه الآيات الست من عبر وآداب وتشريعات تكفل السعادة الكاملة فى الدنيا والآخرة[2]. ولكننا سنحاول - بتوفيق الله وحده - التركيز على ما يتعلق منها بموضوعنا هنا، وهو ضوابط عمل المرأة خارج المنزل ودور كل الأطراف فى رعايتها والآداب والواجبات المطلوبة من الجميع رجالاً ونساءً:
( أ ) لا يجوز للمرأة الخروج للعمل خارج المنزل إلا فى حالات الضرورة القصوى. وأهم تلك الحالات عدم وجود رجل من المحارم يكفيها مئونة العمل. فقد ذكرت الفتاتان أن الأب يعانى من أمراض الشيخوخة وغير قادر على العمل بدلاً منهما ﴿ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾، ومن الواضح أنه لم يكن لهما أخ أو عم أو خال يقوم مقام الأب فى العمل، فاضطرت الفتاتان إلى الخروج لسقى الأغنام حتى لا تهلك عطشًا.
(ب) وإذا اضطرت المرأة للخروج للعمل فليكن ذلك بكل إحتشام وعفة، وعليها تجنب الاختلاط بالرجال الأجانب - من غير المحارم - فقد كانتا تُبعدان الأغنام عن البئر، وتحرصان على عدم السقى إلى أن يفرغ الرعاة وينصرفون كلهم من المكان، وبذلك لا يجد أى متطفِّل أو فاسق أية فرصة للتقرب منهما، ويُغْلق الباب تمامًا فى وجه الشيطان والفتنة ودواعى الرذيلة. كما أنهما لم تتحدَّثا مع أحد مطلقاً، ولولا أن موسى - عليه السلام - هو الذي بادر وسألهما بكل أدب عن أمرهما - ليساعدهما - لما تحدثت إليه إحداهما. وقد تركتا له أداء العمل الشاق.
(جـ) الكلام مع الرجال الأجانب للضرورة فقط، وبالقدر اللازم لشرح الحال دون زيادة. كما نلاحظ إلتزام الحياء التام:﴿ تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾. وروى عن عمر بن الخطاب أن الفتاة جاءت تُبلِّغه دعوة أبيها، وكانت منتقبة عفيفة ليست بكثيرة الخروج والتنقل من مكان إلى آخر بلا ضرورة.
( د ) على الحاكم أو القادرين من الرجال فى المجتمع أن يبذلوا كل ما فى وسعهم لإعفاء النساء من مشقة العمل خارج المنزل، وصونهن عن الاحتكاك والاختلاط بغير محارمهن. فقد قام موسى - عليه السلام - فورًا بسقي الأغنام بدلاً من الفتاتين.ولو طبقِّنا ما فعله - عليه السلام - في أيامنا هذه لتجنّب المجتمع كثيرًا من المشاكل والمصائب التى يعلمها الجميع. وعلى المرأة أن تحمد الله - تعالى - على نعمة وجود من يكفيها مشقة العمل خارج البيت.
(هـ) نلاحظ أيضًا أن الفتاتين قَبِلتا شاكرتين مساعدة كليم الله. وحرصت المرأة على استثمار الفرصة التي سنحت لها لترتاح من عناء العمل الخارجي، فاقترحت على أبيها أن يستأجر ذلك الشاب القوى الأمين للعمل بدلاً منهما.
ولم تقل له مثلاً: لا يا أبى، أعطنا الفرصة للاستقلال وتحقيق الذات والاستغناء عن تحكُّم الرجال!! أو أن المرأة كالرجل تمامًا فى العمل إلى آخر هذا التخريف والضلال الذى نسمعه من عضوات المؤتمرات والجمعيات النسائية فى هذا الزمن العصيب!!
(و) قام ولى الأمر فورًا باستئجار القوى الأمين لأداء العمل وإعفاء ابنتيه من التعب والامتهان والتعرض للفتن خارج البيت. بل عَلَّمنا شعيب - عليه السلام - أيضًا أن نخطب لبناتنا الشباب التقى الأمين، فلا عيب فى أن يخطب الرجل لابنته شابًّا صالحًا يتزوَّجها ويرعاها ويُعِفُّها الله به ويصونها عن الحرام وكل مكروه.
ونلاحظ حكمة الأب ومرونته فى تيسير أمر الزواج من ابنته، فقد خرج موسى - عليه السلام - من مصر بلا مال، ولم يكن باستطاعته دفع أى مهر، فاهتدى إلى الحل الأمثل، وهو أن يكون مهر ابنته هو أن يعمل موسى معه أجيرًا 8 أو10 سنوات حسب طاقته. وبذلك تحققت مصالح جميع الأطراف، وتم حل جميع المشاكل دفعة واحدة بتوفيق الله للبنت فى اقتراح استئجاره، وتوفيق الله للأب بعرض زواج موسى من إحدى البنتين مقابل عمله. فكفى الله الفتاتين العمل الشاقَّ خارج المنزل، وارتاح الأب كذلك من القلق على مصيرهن فى كل مرة يخرجن فيها لسقى الأغنام، كما وجد موسى عملاً شريفًا وزوجة ومأوى أيضًا، ورزق الله إحدى البنتين بالزوج الصالح.
وفى القصة أيضًا آداب يجب أن يتحلى بها كلا الجنسين. فالكلام بقدر الحاجة والضرورة فقط كما أشرنا.
ويجب تجنب إثارة الريبة والشبهات، فقد أخبرته أن الدعوة من أبيها وليست هى التى تدعوه.
كما أمرها هو أن تمشى خلفه وليس بجواره أو أمامه حتى لا يرى أردافها وتفاصيل جسدها وعوراتها،وأيضًا لتجنب إثارة القيل والقال بين سكان مدين.
ومن المعلوم أن شرع مَنْ قَبلنا هو شرع لنا نعمل به ما لم يأتِ في شريعتنا ما يخالفه أو يلغيه. ولهذا فإن هذه الضوابط لعمل وخروج المرأة فى شريعة موسى عليه السلام تنطبق على كل المسلمين إلى يوم القيامة. وكل الرسالات السماوية جوهرها واحد وهو التوحيد ومكارم الأخلاق[3].