على الطريق الزراعي، وكأنما قد عمل عملة، يتسلل الميكروباص متسترًا في جنح الليل، ركّابه شبه نائمين، كما أنهم ليسوا متيقظين، في حال أقرب إلى السطل، وسائقه قد أصابه الصداع من جراء الأغاني الشعبية، ولم يجرؤ على إغلاق الكاسيت مخافة الوقوع في النوم، فلجأ إلى تشغيله بصوت خفيض.
البرد قارص، و عماد قد ضم طرفي سترته عليه، إنها سترة من جلد طبيعي، وهي قطعة قيّمة جدًا لزوم العمل، فكيف يمر عبر عشرات المكاتب من الأمن وخدمة العملاء والسكرتارية ويدلف إلى مكتب عميل VIP ما لم يكن مظهره لائقًا؟ ومن حسن الطالع أنها تنفع في أيام البرد كذلك.
ولكنه لا يريد أن يفكر من جديد في العمل، كما لا يريد أن يفكر في أسرته في القرية التي سيعود إليها خالي الوفاض بعدما لم يتمكن من بيع شيء هذا الأسبوع، ولا يريد أن يفكر في والد خطيبته الذي سيخبره أن مهلته قد انقضت وخطبته انفسخت. فقط يريد أن يفكر في ملوخية أمه الشهية وسريره الدافئ، أراح رأسه إلى النافذة، وسيكون رائعًا لو استغرق في النوم.
تسقط رأسه نائمًا، يصحو منتفضًا إثر فرملة مفاجئة، يصعد ثلاثة رجال إلى الميكروباص يحمل كل منهم لفافة فيحتلون الكنبة من خلف عماد، يطلق في نفسه سبة بذيئة، ويعاود إراحة رأسه إلى النافذة فيما يتحرك الميكروباص من جديد.
- أنا خائف يا ناجح..
- لا تخف يا راضي، الأمر بسيط، فبمجرد أن نصل إلى ضيعة أبو الفداء سنسلم ما لدينا، وننتظر اختياره لأحدنا.
يتسلل الحوار إلى أذن عماد من الكنبة الخلفية، فيحك أذنه ويحاول استدعاء النوم.
- وهذا ما أخشاه، ماذا لو لم يعجبه قرباني ولم يخترني بعدما بت أحلم بالسلطة المطلقة التي ستكون لي، والقوى الخارقة التي سأملكها، وبوابات العالم التي ستفتح لي، سيكون من القسوة ألا يختارني بعد كل هذا.
- كن منطقيًا يا راضي واعترف أن فرصتك ضعيفة، أنت صديقي ولكني لن أخدعك، وأنت لن تكون أفضل مني، أو قلبك أكثر موتًا من قلبي، أو قربانك ـ مهما كان ـ سيكون أفضل من قرباني. وعلى كل حال، أنا لن أنسك حين أصير رجله المُختار وسينالك جانب من العز والجاه والسلطة.
يقتحم الحوار أذنه، فيرهف السمع. يتدخل صوت ثالث:
- دومًا ما تظن نفسك أذكى من الجميع يا ناجح، وهذا هو الاختبار الحقيقي لذكائنا جميعًا.
- بل أنت دومًا تنزعج مني يا خلف، دومًا تعارضني وكأنني وُلِدت فوق رأسك، على أي حال، دعك من هذا وأخبرني ما الذي أحضرته؟
- ألم أقل لك أنك تظن نفسك أذكى من الجميع، ألم ينبهنا عتريس إلى عدم الإفصاح عن قرابيننا كي لا تفسد؟
- وأنا قلت لك أنك دائم سوء الظن بي.
يطير النوم تمامًا ويتقد ذهنه. يتدخل الصوت الأول:
- يا جماعة اهدءوا، هل يجب أن تتشاجرا في كل لحظة هكذا؟ إن ما يشغلني لهو شيء آخر، أسمعتم ما قاله عتريس عن الخطوة الأخيرة؟ إن هذا بشع ولا أتصور أن يقع لي أو لأحد منكم.
- هذه هي التعليمات ولقد قبلنا بها، وإذا كان هذا هو الثمن للحصول على القوة المطلقة فبالتأكيد إن أحد منا لن يفرّط، إنها فرصة والفرصة لا تأتي مرتين.
يتوقف الميكروباص إلى جانب، يتوقفون عن الحديث وينظرون إلى رجلين على الطريق يحمل كل منهما لفافة، أحدهما ـ وهو ضخم ـ رفع حاجبه إلى الأعلى، والآخر ـ وهو وسيم ـ أزاح شفتيه في شبه ابتسامة، وتبادلا مع رجال الكنبة الخلفية نظرة وهزّة رأس، قبل أن يصعدا إلى المقعدين الأماميين جوار السائق. أما ما قد استوقف عماد فهو تلك اللفافة الهزيلة بيد الوسيم، هل يمكن أن تؤدي ’هذه‘ الغرض؟ لابد أنه واثق جدًا وإلاّ لاهتم لحجم لفافته كالآخرين.
يحاول رجال الكنبة الخلفية أن يعاودوا الحوار، يتمنى عماد لو يعاودوا الحوار، غير أن القلق أو رهبة ما هم مقدمين عليه كان قد ألجم أفواههم.
على مسافة ليست ببعيدة، وقبل أن ينحرف الطريق الزراعي، يشير الرجل الضخم في المقعد الأمامي إلى السائق أن يتوقف، فينزل مع زميله، وينزل معهما رجال الكنبة الخلفية، وقبل أن يتحرك السائق، يطلب عماد من جاره أن يخلل له ممرًا، وينزل من فوره على إثرهم.
ينظر الرجال خمستهم إلى عماد، يضمم عماد سترته عليه فيما ينطلق الميكروباص مبتعدًا.
يتبادل الرجال نظرة مع بعضهم، ثم يجدّون السير نحو أحراش على جانب الطريق، يسير عماد على بعد مسافة قصيرة من خلفهم. يدير ناجح رأسه إلى الخلف فيجد عماد مقبلاً عليه. يتوقف ويستدير إليه:
- أنت تتبعنا إذًا؟
- أنا لا أتبعكم، أنا ذاهب إلى ضيعة أبو الفداء.
ينظرون إلى أنفسهم متعجبين، ويبادره راضي:
- هل تعرف عتريس؟
- نعم.
يسأله ناجح بتشكك:
- فأين المطلوب؟
يضرب على سترته الجلدية ويقول:
- في الحفظ والصون!
- في جيبك! إنه صغير جدًا، وهل يصلح هذا؟
- ليست مسألة حجم، وها هو صاحبكم يحمل لفافة أصغر.
يهز ناجح رأسه، ويسأل في تذاكٍ:
- صحيح، وما هو؟
- ومن قال أني قد أخالف تعليمات عتريس وأخبرك؟
- حسنًا.
يقولها باقتضاب، ثم يضرب على كتف عماد ويقول بينما يستدير:
- تعالَ معنا.
يتوغلون داخل الأحراش يتبعهم عماد، ينعق البوم فيرتجف راضي أول من يرتجف، تثبته يدا ناجح في مكانه، ويواصلا التقدم، ومن بعيد تتوهج الضيعة تحت ضوء القمر المكتمل، خطوة بخطوة في الممر الضيق نحو الضيعة، وكأن الأشجار تنحني قليلاً، وكأن الأطيار تفر بعيدًا، وينزوي القمر.
على الباب، يتوقف أولهم فجأة فيرتج الطابور من خلفه. يميل الرجل الوسيم ذو الابتسامة الساخرة فيلتقط مفتاحًا من أسفل دوّاسة القدم، ثم يرفعه بوجوههم قائلاً:
- ها هو! من سيدخل أولاً؟
ثم تراقصت ابتسامته الساخرة إلى اليمين وإلى اليسار.. لم يتبرع أحدهم للمهمة، فمد يده بالمفتاح يودعه يد خلف، وهو الأقرب إليه موضعًا، فانتفض، ثم تشجع فطوى لفافته تحت ذراعه، وأدار المفتاح في الباب، وقبل أن يفتحه ارتد للوراء وارتج الدم في عروقه إثر شهقة عالية. تصلّب الجميع في مواضعهم للحظة، ثم التفتوا إلى مصدر الشهقة: كانت طفلة صغيرة ومن خلفها بعض صبية على جانب من الممر، اقتربت الطفلة خطوتين وقالت بلهجة عاتبة:
- ما الذي تفعلونه؟ ألا تعرفون أن الضيعة مسكونة؟
حدجها الرجل الضخم ذو الحاجب المرتفع بنظرة شرسة، وقال آمرًا:
- لا شأن لكِ، خذي رفاقك وانصرفي.
لكنها لم ترتح إلى هذا الحل دون أن تؤكد الأمر:
- وكيف أنصرف دون أن أعلمكم أن الضيعة مسكونة؟
انفلتت أعصاب الرجل الضخم، فانقض يقطع المسافة تجاهها في خطوتين، توارى خلالهما الصبية خلفها، وقبل أن تعي ما يحدث هوى بكفه الغليظة فوق خدّها مؤكداً:
- قلتُ لكِ أن تنصرفي.
اشتعل غضب عماد ثأرًا للطفلة، وركض تجاه الرجل الضخم فدفعه عنها ملقيًا به أرضًا:
- كيف تمد يدك على طفلة صغيرة؟
واحتوى الطفلة بذراعه، هب الرجل الضخم واقفًا عازمًا على النيل منه، فأسرع الجمع من فورهم يحجمون الرجل الضخم ويحولون بينهما ملقين بعبارات التهدئة، لا يعيرهم عماد اهتمامًا، يُنزل كف الطفلة عن وجهها فيرى آثار الضربة على خدّها، يربّت على كتفها، فترفع إليه عينًا متلألئة بالدموع وتقول:
- صدّقني الضيعة مسكونة.
- أعلم.
- بل صدّقني الضيعة مسكونة، أنا وإخوتي نسكن بالجوار، وكل من يسكن هنا يقول أنه رأى شيطانًا.
- أصدّقك، ولكنك يجب أن تأخذي إخوتك وتعودي للمنزل الآن حالاً، حسنًا؟
- ولكن...
قاطعها:
- ما اسمك؟
- سارة.
- هيا يا سارة.
- وأنت ما اسمك؟
- عماد.
- انتبه لنفسك يا عماد.
ثم تمسك بأكف إخوتها، وترتد مبتعدة.
يرمق الرجل الضخم ذو الحاجب المرتفع عماد بنظرة حقد، ثم يتقدم. وعلى الباب، يتولى ناجح ـ مشكورًا ـ قيادة المجموعة فيحفظ وقتًا ثمينًا من التعازم، يدير المفتاح في الباب، ويدفعه.
يطالعهم ظلام غير مكتمل، تتراقص فيه الخيالات. يتناول ناجح كشافًا، ويمضى يشق طريقه يتبعه الآخرون، وكأنما يتحدث إلى نفسه، يقول بصوت خفيض:
- قال عتريس القاعة في آخر الممر، ليس من مجال للتيه.
تلاعب خيالاً عملاقًا باتجاهه، فخرج منه الصوت أقرب للنساء:
- وقال ألا نلتفت للخيالات!
وفي آخر الممر، كانت القاعة الموصوفة فسيحة جدًا ومقبضة، وفور دخولها، توجه ناجح إلى أحد الأركان فوضع الكشاف جانبًا وأشعل عود ثقاب، وباستخدامه أشعل شمعات شمعدان:
- كل شيء كما وصف عتريس بالضبط.
ثم اتجه إلى ركن آخر يشعل شمعات أخرى، وتولى خلف إضاءة الركنين الباقيين، وحين توهجت الشمعة الأخيرة بالنار اتضحت ملامح القاعة:
إنها قاعة مستطيلة على جانبها الأيمن نافذة، وفي مقدمتها مكتب عملاق من خلفه كرسي جلدي فخم، وإلى أمامه مقعدين. وفي المنتصف هناك تمثال لخليط من الحيوانات أو شيء ما، ومن حوله دائرة من خمسة مقاعد. وبشكل تلقائي، توجه كل منهم إلى أحد مقاعد الدائرة، وبقي عماد متأخرًا في الخلف.
جالسين إلى المقاعد، واضعين لفافاتهم فوق أفخاذهم، ثم مديرين رؤوسهم تجاه عماد، فتحرك مرتبكًا نحو مقدمة القاعة يجلب مقعدًا من أمام المكتب:
- لابد أن عتريس قد أخطأ بالعدد.
أفسح له ناجح إلى جواره، ثم رفع كفيّه إلى جانبيه يبحث عن كفيّ جاريه، وحين اكتمل تشبّك الأصابع قال ناجح:
- والآن، اغمضوا عيونكم، واستجمعوا تركيزكم، فهل أنتم مستعدون؟
ارتجفت الرؤوس قليلاً فيما يشبه الإيماءة، فبدأ ناجح عدّه التنازلي:
- ثلاثة.. اثنان.. واحد
انطلقوا يرددون في صوت واحد:
- أبرا-كادابرا.. أبرا-كادابرا.. أبرا-كادابرا
تعلم عماد كلمتهم، فردد معهم:
- أبراكادابرا.. أبراكادابرا.. أبراكادابرا
ومن النافذة المطلة على الحديقة، طرقات خفيضة، وصوت طفولي:
- عماد، عماد، هل أنت هنا؟ لقد أرجعت إخوتي للبيت وعدت لك.
يفتحوا عيونهم، يرسل عماد نظره إلى النافذة، ويهتف ناجح:
- تبًّا!
تمر لحظة صمت، يعاودون إغلاق العيون، والنداء:
- أبراكادابرا.. أبراكادابرا.. أبراكادابرا
- عماد، عماد، أنا أعرف أنك هنا، فاخرج من هنا سريعًا، هذا المنزل يحوي شيطانًا
يهب الرجل الضخم غاضبًا:
- سأكسر رأسها.
يوقفه عماد بإشارة من يده ونظرة حزم، ثم يثبّت نظرة الحزم على وجهه ويتجه إلى النافذة على الجدار الأيمن فيفتحها ويطل منها، تشرق لرؤيته لكنها تُصدَم من نظرته والتقطيبة فوق جبينه كما أنه يرفع حاجبه مثل حاجب الرجل الضخم:
- ارحلي من هنا حالاً وإلاّ كسرتُ رأسك!
تتراجع للوراء فورًا، يغلق النافذة بقوة، ويعاود الدخول في الدائرة، يتهيأ الجميع لمتابعة العمل غير أن المفاجأة تلجمهم، تتوهج عينا التمثال في وسط رأسه الذي يشبه رأس الديك، تتلوى قدماه اللتان تشبهان الثعابين، أما ما دون ذلك فهو جسد بشري على ما يرام.
يشهق بعضهم، ينتفض بعضهم في موضعه، والبعض يتراجع للوراء، وتهمس الألسن أسفل العيون المتسعة:
- أبراكساس! أبراكساس!
يخطو التمثال الذي استحال شيطانًا من بينهم.. ينساب فوق ساقي الثعابين نحو المكتب، ثم يتخذ مقعده خلفه. ينتفض الجميع واقفين في صف قبالته، ويحنون الرؤوس.
يرمق عماد هذا المشهد بأعين عمياء من موضعه بأقصى اليمين، يبتلع ريقه بصعوبة، ها قد انقلب الهزل جدًّا، أو أن الأمر كان جادًا منذ البداية، وقد غرّه نزق الشباب. إن رفاقه هنا يحملون قرابين لأبراكساس، كما أن أبراكساس هنا ينتظر قرابينه، وإنه قد تورط أكثر من اللازم، والمشكلة أنه تورط خالي الوفاض.
يشير أبراكساس بعصاه نحو الأول في الصف من ناحية اليسار، فتتخبط ساقي راضي بينما يتقدم، يتوقف أمام المكتب فينزل لفافته أمامه ويحني رأسه قائلاً:
- لقد جئتك يا كبير الشياطين أتودد وأتقرب إليك، حاملاً قرباني الذي انتقيته على عيني طمعًا في أن يعجبك، وكلي أمل في أن أكون رجلك الذي تعتمد عليه وتفتح له أبواب مجدك وسلطتك.
أشار أبراكساس إلى اللفافة، وقال بصوت عميق يصدر من بين منقاريه:
- افتحها.
تعثر راضي في فتح اللفافة، واستغرق وقتًا أكثر من اللازم، ثم بالأخير أزاح الأوراق عن جثة قطة سوداء قصيرة الفرو هزيلة يتخثر الدم أسفل عنقها وترسل بصرها الشاخص إلى بعيد، وما إن بدت من اللفافة حتى قال راضي:
- أعلم يا كبير الشياطين حلول شياطينك في القطط السوداء، ومهابة العامة لها، ولكني بقلبي الميت تخلصت من كل مشاعري وتتبعت قطًا بريئًا يبحث عن وجبته بين صناديق القمامة، وقبل أن يشبع جوعه قتلته متضوّعًا لأقدمه على طاولتك أيها الكبير، والأمر لك.
أشار له أبراكساس أن يبتعد، وقال بصوته العميق:
- الذي يليه.
تقدم خلف متخبطًا نحو المكتب، فأنزل لفافته وقام بفك أوراقها بأنامل مرتعشة، ثم قال بابتسامة مهزوزة:
- لا أتحدث عن القطط، أتقدم لك يا أبراكساس العظيم بقربان بشري من لحم ودم..
تبدت الساق البيضاء من بين الأوراق، فتراجع خلف خطوة للوراء مكملاً حديثه:
- لقد قضيت ليلتي أفكر في قربانًا يروق لك، وفي كل مرة أعجز عن التفكير ألجأ إلى الاستغراق في الرذيلة، هذه المرة وبينما أوقع بالبنية البيضاء الجميلة بين يدي وجدت الفكرة تتأجج بقوة في عقلي، وكما استمتعت بها فإن أبراكساس العظيم أولى بكل متعة، لم أنتظر أن أتم مواقعتها، ولم تكن لتكتمل لذتي بغير أن أرفع السكين العملاق فأهوي فوق ساقها الغضّة، لم تفق من نشوتها أو حتى تستشعر الألم، كان الذهول قد ألجمها عن أي شيء، وهذا عن أمري يا أبراكساس العظيم، والأمر لك.
ثم تراجع إلى موضعه، مد أبراكساس عصاه يتفحص الساق أمامه، ثم رفع عين الديك تجاه ناجح وقال:
- الذي يليه.
تقدم ناجح في ثقة حاملاً لفافته، أنزلها إلى المكتب ونظر باستهزاء إلى اللفافات المفتوحة إلى جوارها، ورفع عينه ينظر إلى عيني الديك في ثبات، ثم قال:
- أمضيتُ عمري في انتظار لحظة كهذه، لحظة أن أقف أمامك حاملاً قرباني الذي أثق بكل خلجة في جسدي أنه سيعجبك، إنه القربان الحق وليس الهراء الذي على طاولتك.
يزيح الأوراق دفعة واحدة، فتتبدى رأسًا بشرية بلحية طويلة ودم متخثر أسفل العنق:
- ها هو قربانك يا ملك العالم السفلي، ليست رأسًا لقطة ولا غانية، لقد أتيتك برأس ألد أعدائك، كان يحاربك في كل موضع تطؤه قدمه فوق الأرض، يحذر الناس منك، ينبئهم بحيلك للإيقاع بهم، يطرد أعوانك من أجسادهم، وكان يكرهك، وبعد أن انتهى من موعظته المعتادة، عرضت عليه أن أقلّه بسيارتي لأتبرك به وآخذ بنصيحته في أمر يخصك، ولبراءة سريرته، قبل الركوب معي، فأخذته إلى الصحراء واجتززت رأسه بينما أنظر لعينيه كما أنظر لعينيك، وها أنا أرفعها بين يديك يا ملك العالم السفلي، والأمر لك.
يوميء أبراكساس برأسه، ويشير له أن يعود إلى موضعه، ويقول:
- التالي.
يأخذ الرجل الوسيم شهيقًا عميقًا، وبرغم هول الموقف، لا تتلاشى الابتسامة الساخرة عن وجهه، يحمل لفافته الهزيلة ويتقدم، وقبل أن يصل إلى المكتب يكون قد فض أوراقها وانعكس الضوء الشاحب فالتمع على نصل الخنجر، نقّل الخنجر يمنة ويسرة بين يديه قائلاً:
- من بين مريدينك يا ملك العالم السفلي وطالبي ودّك، لن تجد، من يقبل أن يقتطع قربانك من جسده.
يبسط الرجل الوسيم خنصر كفه اليسرى على المكتب، ويهوي بالخنجر فوقه فتنفجر الدماء ويتعالى صوت احتكاك النصل بالعظم يقشعر الأبدان، يتعالى معه صراخه المكتوم وتتبدى الآلام على وجهه. تتسع عيناه حتى آخر مدى ترقبان إصبعه الذي انفصل، وارتجف جسده قليلاً في موضعه، حتى اطمأن الوسيم إلى صنيعه وتراجع خطوة للخلف ماسحًا جبينه بذراعه، وقائلاً في صوت واهن:
- إصبعي ووسامتي وكل جسدي فداءك يا ملك العالم السفلي، وأثق بأنك ستقدّر القطع القيّمة، والأمر لك.
وفي طريق عودته إلى موضعه، تراقصت ابتسامته الساخرة من جديد، بينما ينظر إلى رفاقه بنظرة تفوق، ويترك على الأرض خيطًا من الدم، ومن خلف ظهره يتعالى صوت أبراكساس:
- الذي يليه.
ينظر الرجل الضخم إلى جاره الوسيم بنظرة غيرة، ينظر إلى اللفافة بين يديه بنظرة حسرة، يتعالى صوت أبراكساس مكررًا بنبرة غاضبة:
- الذي يليه.
يرتبك الرجل الضخم في موضعه، يكاد يتقدم لولا أن يوقفه نداءًا ناعمًا من خلف ظهره:
- عماد!
يلتفت في دهشة، يلتفت الجمع إلى الطفلة على باب القاعة، ويدق قلب عماد بشدة، تتقدم في دلال طفولي:
- يا عماد...
ثم تتوقف وتطلق صراخًا عظيمًا حين ترى أبراكساس الذي هب واقفًا من خلف المكتب، يركض عماد إليها يديرها للخارج:
- اخرجي الآن، اركضي
وفي لمح البصر، يلتقط الرجل الضخم الخنجر من يد جاره، ويركض إلى الطفلة فيرشق الخنجر في صدرها ويشقّه إلى نصفين.
يتبدى أبراكساس خلف رأس الطفلة، يرفعها الرجل الضخم بين يديه ويوجّهها نحوه قائلاً من بين لهاثه:
- هكذا يجب أن يكون قربانك يا ملك الشياطين، كنت قد جهزتُ لك قربانًا ليعبر لك عن قوة بأسي ويكون قربانك المقبول، ولكني أدركتُ الآن أنه لا يليق بك، قربان ملك الشياطين يجب أن يكون طازجًا حار الدماء، يجب أن يلفظ أنفاسه بين يدي ملك الشياطين، ولعمري هذا هو المعنى الوحيد للقربان المقبول، والأمر لك.
تلفظ الطفلة أنفاسها الأخيرة بين يدي عماد، وترفع عينيها تجاهه، يحبس دمعة داخل عينه ويقول:
- لماذا فقط جئتي إلى هنا!!
- أصدّقتني الآن أن بالضيعة شيطانًا؟
ثم تسلم روحها. يلتفت أبراكساس بحدّة نحو عماد، ويقول بصوته العميق:
- الذي يليه.
ثم يتركه ويتقدم نحو مكتبه.
يبتلع عماد ريقه، يغمض عينيه للحظة، يخفي فيها دموعًا كثيرة بالداخل، ثم يترك جثة الطفلة ويتقدم في ثبات نحو أحد أركان القاعة يحمل شمعدانًا، وينزله فوق المكتب.
ينظر إلى أبراكساس، يطلق زفيرًا من صدره، ويبدأ في خلع سترته، يتلفت الرجال نحو بعضهم، ويتساءلون عن كنه ما يفعله. يتناول السترة فيرفع بها فوق نيران الشمعدان، وحين لا تتأذى السترة يرتفع صوته الجسور قائلاً:
- انظر يا أبراكساس، إنه من جلد طبيعي.
يدير راضي رأسه لناجح، ويهمس:
"يناديه أبراكساس من دون ألقاب"
يومئ ناجح برأسه ويقول:
"المراوغ! وأنا الذي ظننته يعني أن قربانه في جيب السترة!"
يحمل عماد السترة فوق كتفه، ويدور يتحدث نحو صف الرجال واحدًا واحدًا:
- الجميع أدرك أن قربان أبراكساس يجب أن يكون غاليًا، حتى أن أحدكم اقتطع إصبعًا من جسده، ولكن من منّا ينكر أن الذي أغلى من جسده هو جسد أمه؟
انظروا إلى جلد السترة الناعم، لقد صنعته من جلد أمي بعدما قد ذبحتها وقمت بسلخها بعناية لأحصل من جلدها على قطعة تصلح لأن تعمل سترة لي، كنت نائمًا أفكر في قربان يصلح لأبراكساس، ومن فرط استغراقي بالتفكير لم أشعر بلسعة البرد الذي يتزايد ليلاً، أتتني، بغمص نومها في عينها، تطمئن إلى تدفئتي ليلاً، ورفعت الغطاء إلى عنقي، وبرقت الفكرة في عقلي، لم تكلمني، ظنتني نائمًا فلم تشأ تزعجني، واستدارت لتبتعد، غير أنها لم تبتعد، مددت يدي ثبتّها من معصمها، شهقت، ثم سألتني بحنو: "هل أنت متيقظ؟" لم أجبها، كنت مستغرقًا في الإعداد لخطتي، شددت من قبضتي على معصمها، ارتبك صوتها: "ما بك يا عمادي"، فقد كانت تدللني، قلت لها: "أريد أن أتدفأ"، فضمّت بيدها الحرّة الغطاء عليّ أكثر، لكنني أزحته وقلت لها: "ليس بالغطاء"، سألت بدهشة: "إذًا بماذا؟"، قلت بثبات: "بجلدك"
اتسعت الأعين، وبدا فيها الانبهار، وعماد مستمر:
- كانت تبكي وكنت أؤكد لها أنني أحتاج إلى سترة جلدية، عرضت عليّ أن تشتري لي أفضل سترة في السوق، وإن كلفها الأمر أن تستدين، لكنني رفضت وأخبرتها أن ما أريده بالضبط هو جلدها، وبرغم بشاعة الأمر فقد تفهمت، قلب الأم بصدرها لم يحتمل أن تتركني أبرد، وعرضت عليّ أن تمنحني جلدها فأصنع السترة، على أن أبقيها حيّة، غير أن قلبي الميت لم يستسغ أن أرى دائنتي كل يوم بعدما قد أخذت جلدها، فآثرتُ قتلها.
التقط أنفاسه، وتعالت الشهقات إذ يقول:
- كان هذا عن أمي، كنتُ بحاجة إلى جلد سترة كامل، أما عن أبي وإخوتي فلم أكن أحتج لأكثر من الياقات والأساور.
عاد للوقوف أمام أبراكساس:
- ومن بعد هذا كانت الدباغة والحياكة والتقفيل، وها أنا أقدم قرباني وأثق بحسن تقديرك يا أبراكساس العظيم، والأمر لك.
ثم رجع يقف في موضعه أمام أعينهم المتلألئة حقدًا. يرجع أبراكساس بظهره للوراء، ثم يدور بمقعده للخلف، فيما يأتيهم صوته وكأنه يتحدث في أذن كل منهم:
- خمسة قرابين مرفوضة، وقربان مقبول...
تهب القطة السوداء واقفة فيما تميل رأسها على صدرها، وتموء مواء ضعيف، بينما يتحدث أبراكساس لـ راضي:
- القطط السوداء شياطين متجسدة، مفهوم لا بأس به، ولكن فاتك أنك إذ تقتل قطة سوداء تقتل واحدًا من أعواني، وفي ظروف أخرى لم يكن ليكفيني عنقك، قربانك مرفوض ودمه في عنقك.
تقفز القطة السوداء من فورها وتذهب تتمسح في قدم راضي، فيما تعتدل الساق البيضاء واقفة وتدبدب بقدمها فوق المكتب، ويتحدث أبراكساس إلى خلف:
- ساق لطيفة جدًا قد سال لها لعابك البشري، ولكن هل تظن أن كبير الشياطين سيسيل لعابه من أجل ساق غانية؟ ولولا أن أتمالك نفسي لكنت أندمتك على إهانتك، قربانك مرفوض ودمه في عنقك.
تخطو الساق في ثبات نحو خلف، ثم تصنع دوائر من حوله، بينما تنفتح أجفان الرأس عن عينين شرستين تدوران في المكان وتتوقفان على ناجح بالذات، ويقول أبراكساس:
- رأس عدوي... هممم.. قربانك كان ليكون من أفضل القرابين التي تلقيتها اليوم، لولا أنه فاتك أنه لم يكن عدوي، بل كان أكثر طوعًا لي من بناني، وكان يواقع الفتيات اللاتي يطرد شياطيني منها، ولم يترك من الموبقات ما لم يفعله سرًّا، وكان شخصًا آخر نهارًا، وكان أعز عليّ من شيطان جهير مثلك، قربانك مرفوض ودمه في عنقك.
تتوجه الرأس إلى ناجح الذي سقط فكه في عدم تصديق، وتتمسك بأسنانها في ثوبه، فيما يقف الإصبع ويشير تجاه الرجل الوسيم الذي راحت ابتسامته تتلاشى رويدًا بينما يتحدث أبراكساس:
- ماذا لدينا هنا؟ آه، إصبع تم قطعه أمام عيني وإهدائي إياه، أحب الدم الحي ولكن هل تظن أن سيد أسياد العالم السفلي من الممكن أن يقبل مساعدًا معيوبًا؟ كان يجب أن تعرف قيمة الذي تتقدم لنيل رضاه، قربانك مرفوض ودمك في عنقك.
يقفز الإصبع فيصطدم بجسد الرجل الوسيم الذي تلاشت ابتسامته أخيرًا، وتقلبت الطفلة في نومتها ثم قامت تطل عيونها بالشرر تجاه الرجل الضخم، وقال أبراكساس:
- قربان كامل حار الدماء، قربان حي تم الإعتداء عليه غدرًا في حضرتي وبيتي ودون استئذاني، مثلك يجب أن يختفي من ناظري الآن حالاً لو أراد النجاة بحياته، قربانك مرفوض ودمه في عنقك.
تصيب الرجل الضخم الصدمة، يحاول التخفي خلف أحد المقاعد من نظر أبراكساس، في ذات الوقت الذي يحاول فيه الإفلات من الطفلة التي تعلقت بعنقه وشبّكت كفيها جيدًا ببعضهما، استدار أبراكساس، تناول السترة فوق عصاه، وقام عن مكتبه متجهًا إلى عماد الذي انحبست أنفاسه وتعلقت عينه بمنقار الديك المنفرج، مرت لحظات ثقيلة قبل أن يقول أبراكساس:
- أما أنت...
تعلقت كل العيون بأبراكساس، خمسة قرابين مرفوضة، ولم يبقَ إلاّ قربان، خمسة قرابين مرفوضة وقربان أخير عن جد ’قربان‘، خمسة قرابين مرفوضة ويتمنون بكل عزمهم ألا يُقبَل القربان الأخير، قال أبراكساس:
- أما أنت فذكاءك نادر..
زاغت أعين عماد في محاولته لفهم مقصد أبراكساس، وإن كان قد ابتلع طٌعمه، أو كشف أمره، أم انتهى أمره تمامًا! قال أبراكساس:
- حقيقة.. يعجبني مخك، أنت الوحيد الذي قدمت لي قربانًا يعجبني، أمك؟! لقد استمعت إليك أتعلم يا فتى! شرّك مستطير، قلبك ميت، أعصابك ثابتة. أنت الذي أبحث عنه، وقربانك مقبول.
تحترق كل الصدور بالغيرة، وتزوغ عينا عماد في ذهول:
- أنا!!
يؤكد أبراكساس:
- نعم، أنت. وسيكون على رفاقك الآن تنفيذ الطقس الأخير لتتويج مساعدي الأبدي الذي ستفتح له كل البوابات ويملك النفوذ والقوة والسلطة.
تتسع ابتسامة عماد غير مصدّق، تستحيل ابتسامته ضحكًا عاليًا فيما يبرطم زملائه غلاً، يتراجع أبراكساس خطوة للوراء:
- تذكرون الطقس الختامي الذي أخبركم عنه عتريس.
يشير بعصاه المغطّاة بالسترة نحو عماد، ويقول:
- فنفذوا الآن.
يتسارع الجمع الحاقد بتقييده، فيصيح في ذهول:
- ماذا تفعلون، ماذا تفعلون؟
يتناول الرجل الضخم الخنجر ويتقدم في اتجاهه، تلتقي عين عماد الذاهلة بنظرة عتاب في أعين الطفلة الميتة المتعلقة بعنق الرجل الضخم، وفي لحظة يغرس خنجره بصدره مرددًا:
- هذا من أجل أن تُفتح لك البوابات وتتحرر روحك وتُكشف عنك الحجب يا بن المحظوظة!
ينفذ الجرح إلى قلبه الميت، يتاح له مثل ثلاث ثوان باقية، ولكنها كافية لأن يدور بخلده التساؤل: هل نجح في خداع أبراكساس، أم أن أبراكساس هو الذي خـ... عفوًا، انتهى الوقت. تتصاعد روحه، ومعها تتصاعد ضحكات أبراكساس في أرجاء المكان:
- هذا هو جزاء من يحتال على كبير الشياطين وملك ملوك العالم السفلي، كان بودّي أن أنخدع لك لولا أني أنا الذي يوسوس بالخديعة، أنا الذي أعرف أمرك ما إن أنظر إلى وجهك، أنا الذي أسري في دمك ودم أهلك، وأنا الذي كنتُ لأشاطرك عشاءك من ملوخية أمك، ولكن حقًا، حقًا، يعجبني مخك.
يتوقف الجميع في ذهول يستمعون إلى أبراكساس، تتصلب الدهشة على وجوههم، تتداول بعض العبارات الخفيضة:
"ما معنى هذا! هل خدعنا جميعًا ابن الملاعين هذا؟"
"ما أوقحه كاذبًا وواثقًا كان ليدّب إصبعه في أعيننا جميعًا"
"ليته لم يمت لكنتُ قتلته بيديّ هاتين"
واحد فقط يتمتع بذكاء نادر وبديهة حاضرة، واحد يتمتع بقلب ميت، انسل من بين الجمع فالتقط ثِقلاً من فوق المكتب وأنزله فوق رأس جثة عماد فانشطرت إلى نصفين، ثم مال يملأ راحتيه من المخ الذي ينسال، ويرفعه نحو أبراكساس الذي التمعت عينه إعجاباً وقال:
- المخ الذي يعجبك هو قرباني إليك يا ملك ملوك العالم السفلي.