الحمد لله رب العالمين الملك الحق المبين إله الأولين والآخرين، أشهد أن لا إله معه ولا رب سواه وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمن المعلوم أن الهدي النبوي الشريف بحكمته البالغة وإشراقته الناصعة هو الذي يرسم أبعاد فضل تربية البنات فيبين الأصول والقواعد التي تقوم عليها التربية.
ومن المعلوم كذلك أن المنطلق الأول الذي تتمحور حوله الحركات الإيجابية أو السلبية في إطار البيت والأسرة هو: المسؤولية، وهي عظيمة جداً وذلك لأن الإنسان مسئول عن رعيته ما صنع فيها لحديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيع حتى يسأل الرجل على أهل بيته))1، فالسائل هو الله - تبارك وتعالى -، والمسؤول هو كل راع عما يقع تحت يده، وفي حوزته - الأمانة - الأدبية والمادية التي استرعي عليها واستحفظ، بشكل عام، يسأل: هل حفظ ما استرعاه الله أم ضيع؟ ليكون بعد ذلك الحساب ثواباً أو عقاباً، ويجيء تحديد الصورة الخاصة من بعد التعميم بسؤال الرجل الذي هو راعي البيت، عن أهله، زوجته وأبنائه وبناته، ماذا قدم لهم؟ وماذا عمل من أجلهم؟ وهل راعى ربه ودينه، وأدى الذي عليه من واجبات؟.
وليست إقامة الرجل في هذا المقام اختياراً أو تشريفاً، ولكنها قسر، وتكليف، قلده إياها دوره الطبيعي في الحياة ووظيفته الاجتماعية، وكلفه من سن لكل مخلوق سننه، ووضع له ناموسه ومنهجه،وأهله وهيأه، الله سبحانه وتعالى!!! فلا مناص من السؤال والحساب.
تتوزع مسؤولية الرعاية للبيت بين الرجل والمرأة، الزوج والزوجة، على ما خلفا وأنجبا، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع))2، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) رواه البخاري برقم (6719).
فيا أيها الآباء والأمهات: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(سورة التحريم:6).، تعاونوا على القيام بهذه المسؤولية داخل بيوتكم وخارجها، تابعوا أولادكم أينما كانوا، مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر علموهم أمور دينهم، أبعدوهم عن جلساء السوء وقرناء الفساد، طهروا بيوتكم من أدوات الفساد والدمار بجميع أشكالها، في الصحيح عن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) رواه مسلم برقم(4834).، فالزوجة تحمل نصيبها في الرعاية للبيت من خلال دورها ووظيفتها الطبيعية أيضاً، وهذا الدور، أو هذه الوظيفة لها جهاتها التي تتوجه إليها، وأهمها على الإطلاق تربية الأبناء والبنات، وليس من ريب في أن هذا التوجه وتلك المسؤولية من أعظم ما عرفت البشرية في نشاطاتها الإنسانية والاجتماعية من مهمات وواجبات، خارج نطاق الأسرة وداخلها.
ونحن إذ نقول بتربية الأبناء والبنات لا ننسى أهمية الزيادة المطلوبة في الأنثى، زيادة الاعتناء والملاحظة، لأننا ندرك دور الأمومة المفترض فيها مستقبلاً، ذلك الدور الذي يصنع الأجيال ويبني الأمم، ويحفظ على ديمومتها وبقائها، واستمرار رقيها وتحضرها، فالمرأة هي أم الرجال.
ولا يظنن إنسان أن هناك توافقاً معنوياً بين قول الله - تبارك وتعالى - عن أهل الجاهلية: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}(سورة النحل:58-59).، وبين حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل فلم تجد عندي شيئا غير تمرة فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها ثم قامت فخرجت فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا فأخبرته فقال: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار)) رواه البخاري برقم(1352)؛ ومسلم برقم(2629).، استناداً إلى كلمة -ابتلي -، فهذا محال، وذلك لأن معنى الابتلاء هنا: الامتحان والاختبار، على اعتبار ما يتطلبه موضوع تربية الأنثى من جهد ونصب، ولأنه ذو قيمة وأهمية بالغتين، ألست ترى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((... فأحسن إليهن كن له ستراً من النار))؟!! ستراً من النار!!!، حفظاً من جهنم .
إن تربية البنات بالإحسان والإتقان، وعلى منهج الرحمن...، سبيل إلى الرضوان ووقاية من حمم النيران.
ويزيد النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيان الأجر والثواب لمن يربي البنات ويحسن إليهن، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه)) رواه مسلم برقم(2631).، فأي أجر وثواب أكبر من أن يحشر هذا المربي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدخول إلى الجنة بفارق بسيط، هو ما بين الإصبع السبابة والوسطى؟!!.
كل ذلك بسبب الإعالة!!!
والإعالة تكون في الإنفاق والكسوة والإطعام، وفي التعليم والتوجيه، في المقتضيات الضرورية من الرعاية الإنسانية.
ويصور النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - مدة الإعالة، حتى بينونتهن، بالدخول إلى بيت الزوجية، وبهذا تنتقل المسؤولية، أو يموت الرجل عنهن، فتنتقل المسؤولية أيضاً إلى من يلي أمرهن.
فليست المدة، أشهراً أو سنوات، أو زماناً معيناً محدداً، بل هي مطلقة، لا تنتهي وتتوقف إلا بتغير الموقع الاجتماعي، بالزواج، أو بفراق العائل لهن فراقاً أبدياً.
فيرتفع الأجر، ويعظم الثواب، كل ذلك بسبب الإعالة لهن.
ويبين لنا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك تفصيل المجمل من السعي والتربية، والمقصود منهما كما في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو ابنتان أو أختان فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن فله الجنة))3.
لقد علَّمنا من قبل المنزلة في الجنة، ونتعلم الآن أبواب وواجبات حسن العشرة، فلا بد من حسن الصحبة لهن، فهن بناته، وله عليهن الطاعة والاحترام، ولكن إنما يتأتى ذلك من خلال الإحسان إليهن، إذ أن رقة الشعور وشدة الحساسية فيهن شديدة لأنهن إناث فعلى الأب والأم اختيار الأسلوب والعبارة والإشارة، المناسبة التي تتفق مع طبيعتهن، والأم أكثر خبرة وأعظم تجربة في بنات جنسها، أضف إلى ذلك رابطة الأمومة وما يتولد عنها من حب وعاطفة.
وحسن الصحبة يكون في مرحلة ما بعد البلوغ، ويقوم على التواد والصراحة، والانفتاح الشعوري والنفسي المتبادل بين الطرفين.
وتقوى الله فيهن، هو المبدأ الثاني في التعامل معهن، إذ هي الميزان الذي يضبط به الأب والأم كفتي الحقوق والواجبات مع البنات، من غير إفراط، ولا تفريط، بل يكون ذلك منضبط بضوابط الشرع الحنيف.
ويكون الإحسان إليهن بالمساواة في الحقوق، وبإعطائهن ما يستحققن من النواحي الإنسانية، في العلم وحرية الاختيار، ويكون بتزويجهن ممن يكافئهن، ويرعاهن خلقاً وديناً، ويحافظ عليهن محافظته على ذاته.
فكان العائل بهذا قد أتم ما عليه من واجبات تجاه البنات، فاستحق الجنة!!!.
ويبين لنا كذلك النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من الإحسان إليهن وثواب ذلك كما في حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول ((من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته كن له حجابا من النار يوم القيامة حتى ولو كانت واحدة))4
وفق الله تبارك وتعالى الجميع لأداء الحقوق الواجبة عليه، وحسن الرعاية لكل من استرعاه الله عليه، ونسأله سبحانه الإخلاص في القول والعمل وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل بمنه وكرمه والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.